القائمة الرئيسية

الصفحات


 معاذ بن جبل  أعلمھم بالحلال والحرام  


نبذة عن حياته

عندما كان الرسول عليه الصلاة والسلام يبابع الأنصار بيعة العقبة الثانية. كان يجلس بين

السبعين  الذين ّ يتكون منھم وفدھم، شاب مشرق الوجه، رائع النظرة، ّ براق الثنايا.. يبھر الأبصار بھوئه وسمته.  


معاذ بن جبل  أعلمھم بالحلال والحرام


فاذا ّ تحدث ازدادت الأبصار انبھارا!!..

ذلك كان معاذ بن جبل رضي الله عنه..
ھو  رجل من الأنصار، بايع يوم العقبة الثانية، فصار من السابقين الأولين.
ورجل له مثل اسبقيته، ومثل ايمانه ويقينه، لا يتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في مشھد ولا 
في غزاة. وھكذا صنع معاذ.. 

على أن آلق مزاياه، وأعظم خصائصه، كان فقھه..

بلغ من الفقه والعلم المدى الذي جعله أھلا لقول الرسول عنه:
" أعلم أمتي بالحلال والحرام معاذ بن جبل.."
وكان شبيه عمر بن الخطاب في استنارة عقله، وشجاعة ذكائه. سألأه الرسول حين وجھه الى اليمن:
" بما تقضي يا معاذ؟"
فأجابه قائلا: " بكتاب الله.."
قال الرسول: " فان لم تجد في كتاب الله.."؟
"أقضي بسنة رسوله.."
قال الرسول: " فان لم تجد في سنة رسوله.."؟
قال معاذ": أجتھد رأيي، ولا آلوا.."
فتھلل وجه الرسول وقال:
" الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم لما يرضي رسول الله."
فولاء معاذ لكتاب الله، ولسنة رسوله لا يحجب عقله عن متابعة رؤاه، ولا يحجب عن عقله تلك الحقائق
الھائلة ّ المتسرة، التي تنتظر من يكتشفھا ويواجھھا.
ولعل ھذه القدرة على الاجتھاد، والشجاعة في استعمال الذكاء والعقل، ھما اللتان مكنتا معاذا من ثرائه
الفقھي الذي فاق به أقرانه واخوانه، صار كما وصفه الرسول عليه الصلاة والسلام " أعلم الناس
بالحلال والحرام."
وان الروايات التاريخية لتصوره العقل المضيء الحازم الذي يحسن الفصل في الأمور..
فھذا عائذ الله بن عبدالله يحدثنا انه دخل المسجد يوما مع أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم في أول
خلافة عمر..قال:
" فجلست مجلسا فيه بضع وثلاثون، كلھم يذكرون حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي
الحلقة شاب شديد الأدمة، حلو المنطق، وضيء، وھو ّ أشب القوم سنا، فاذا اشتبه عليھم من الحديث
شيء ّ ردوه اليه فأفتاھم، ولا يحدثھم الا حين يسألونه، ولما قضي مجلسھم دنوت منه وسالته: من أنت
يا عبد الله؟ قال: أنا معاذ بن جبل."
وھذا أبو مسلم الخولاني يقول:
" دخلت مسجد حمص فاذا جماعة من الكھول يتوسطھم شاب ّ براق الثنايا، صامت لا يتكلم.ز فاذا امترى
القوم في شيء توجھوا اليه يسألونه.ز فقلت لجليس لي: من ھذا..؟ قال: معاذ بن جبل.. فوقع في نفسي 
حبه." 

وھذا شھر بن حوشب يقول:
" كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اذا تحدثوا وفيھم معاذ بن جبل، نظروا اليه ھيبة له.."
ولقد كان أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه يستثيره كثيرا..
وكان يقول في بعض المواطن التي يستعين بھا برأي معاذ وفقھه:
" لولا معاذ بن جبل لھلك عكر.."


ويبدو أن معاذ كان يمتلك عقلا أحسن تدريبه، ومنطقا آسرا مقنعا، ينساب في ھدوء واحاطة..
فحيثما نلتقي به من خلال الروايات التاريخية عنه، نجده كما أسلفنا واسط العقد..
فھو دائما جالس والناس حوله.. وھو صموت، لا يتحدث الا على شوق الجالسين الى حديثه..
واذا اختلف الجالسون في أمر، أعادوه الى معاذ لبفصل فيه..
فاذا تكلم، كان كما وصفه أحد معاصريه:


" كأنما يخرج من فمه نور ولؤلؤ.."

 

ولقد بلغ كل ھذه المنزلة في علمه، وفي اجلال المسلمين له، أيام الرسول وبعد مماته، وھو شاب.. فلقد
مات معاذ في خلافة عمر ولم يجاوز من العمر ثلاثا وثلاثين سنة..!!
وكان معاذ سمح اليد، والنفس، والخلق..


فلا يسأل عن شيء الا أعطاه جزلان مغتبطا..ولقد ذھب جوده وسخاؤه بكل ماله.
ومات الرسول صلى الله عليه وسلم، ومعاذ باليمن منذ وجھه النبي اليھا يعلم المسلمين ويفقھھم في 
الدين..

وفي خلافة أبي بكر رجع معاذ من اليمن، وكان عمر قد علم أن معاذا أثرى.. فاقترح على  الخليفة أبي 
بكر أن يشاطره ثروته وماله!..

ولم ينتظر عمر، بل نھض مسرعا الى دار معاذ وألقى عليه مقالته..
كان معاذ ظاھر الكف، طاھر الذمة، ولئن كان قد أثري، فانه لم يكتسب اثما، ولم يقترف شبھة، ومن ثم
فقد رفض عرض عمر، وناقشه رأيه..
وتركه عمر وانصرف..
وفي الغداة، كان معاذ يطوي الأرض حثيثا شطر دار عمر..
ولا يكاد يلقاه.. حتى يعنقه ودموعه تسبق كلماته وتقول:
" لقد رأيت الليلة في منامي أني أخوض حومة ماء، أخشى على نفسي الغرق.. حتى جئت وخلصتني يا
عمر.."
وذھبا معا الى أبي بكر.. وطلب اليه معاذ أن يشاطره ماله، فقال أبو بكر": لا آخذ منك شيئا.."
فنظر عمر الى معاذ وقال": الآن ّ حل وطاب.."
ما كان أبو بكر الورع ليترك لمعاذ درھما واحدا، لو علم أنه أخذه بغير حق..
وما كان عمر متجنيا على معاذ بتھمة أو ظن..
وانما ھو عصر المثل كان يزخر بقوم يتسابقون الى ذرى الكمال الميسور، فمنھم الطائر المحلق، ومنھم
المھرول، ومنھم المقتصد.. ولكنھم جميعا في قافلة الخير سائرون.



ويھاجر معاذ الى الشام، حيث يعيش بين أھلھا والوافدين عليھا معلما وفقيھا، فاذا مات أميرھا أبو 
عبيدة الذي كان الصديق الحميم لمعاذ، استخلفه أمير المؤمنين عمر على الشام، ولا يمضي عليه في

الامارة سوى بضعة أشھر حتى يلقى ربه مخبتا منيبا..
وكان عمر رضي الله عنه يقول:
" لو استخلفت معاذ بن جبل، فسألني ربي: لماذا استخلفته؟ لقلت: سمعن نبيك يقول: ان العلماء اذا
حضروا ربھم عز وجل ، كان معاذ بين أيديھم.."

والاستخلاف الذي يعنيه عمر ھنا، ھو الاستخلاف على المسلمين جميعا، لا على بلد أو ولاية..
فلقد سئل عمر قبل موته: لو عھدت الينا..؟ أي اختر خليفتك بنفسك وبايعناك عليه..
لإاجاب قائلا:
" لو كان معاذ بن جبل حيا، ووليته ثم قدمت على ربي عز وجل، فسألني: من ولّيت على أمة محمد،
لقلت: ولّيت عليھم معاذ بن جبل، بعد أن سمعت النبي يقول: معاذ بن جبل امام العلماء يوم القيامة."

قال الرسول صلى الله عليه وسلم يوما:
" يا معاذ.. والله اني لأحبك فلا تنس أن تقول في عقب كل صلاة: اللھم أعني على ذكرك وشكرك وحسن 
عبادتك.." 

أجل اللھم أعنّي.. فقد كان الرسول دائب الالحاح بھذا المعنى العظيم الذي يدرك الناس به أنه لا حول لھم  
ولا قوة، ولا سند ولا عون الا باͿ، ومن الله العلي العظيم.. 

ولقد حذق معاذ لدرس وأجاد تطبيقه..
لقيه الرسول ذات صباح فسأله:
"كيف أصبحت يامعاذ.."؟؟
قال:
" أصبحت مؤمنا حقا يا رسول الله."
قال النبي:
   ان لكل حق حقيقة، فما حقيقة ايمانك.."؟؟
قال معاذ:
" ما أصبحت قط، الا ظننت أني لا أمسي.. ولا أمسيت مساء الا ظننت أني لا أصبح..
ولا خطوت خطوة الا ظننت أني لا أتبعھا غيرھا..
وكأني أنظر الى كل امة جاثية تدعى الى كتابھا..
وكأني أرى أھل الجنة في الجنة ينعمون..
وأھل النار في النار يعذبون"..
فقال له الرسول: 
" عرفت فالزم.."


ولقد أجاد ابن مسعود وصفه حين قال:

"ان معاذا كان ّ أمة، قانتا Ϳ حنيفا، ولقد كنا نشبّه معاذا بابراھيم عليه السلام.."

**
وكان معاذ دائب الدعوة الى العلم، والى ذكر الله..
وكان يدعو الناس الى التماس العلم الصحيح النافع ويقول:
" احذروا زيغ الحكيم.. وارفوا الحق بالحق، فان الحق نورا!!.."
وكان يرى العبادة قصدا، وعدلا..
قال له يوما أحد المسلمين: علمني.
قال معاذ: وھل أنت مطيعي اذا علمتك..؟
قال الرجل: اني على طاعتك لحريص..
فقال له معاذ:
" صم وافطر..
ّ وصل ونم..
واكتسب ولا تأثم.
ولا ّ تموتن الا مسلما..
واياك ودعوة المظلوم.."
وكان يرى العلم معرفة، وعملا فيقول:
" تعلموا ما شئتم أن تتعلموا، فلن ينفعكم الله بالعلم جتى تعملوا.."
وكان يرى الايمان باالله وذكره، استحضارا دائما لعظمته، ومراجعة دائمة لسلوك النفس.

يقول الأسود بن ھلال:

" كنا نمشي مع معاذ، فقال لنا: اجلسوا بنا نؤمن ساعة.."

ولعل سبب صمته الكثير كان راجعا الى عملية التأمل والتفكر التي لا تھدأ ولا تكف داخل نفسه.. ھذا الذي

كان كما قال للرسول: لا يخطو خطوة، ويظن أنه سيتبعھا بأخرى.. وذلك من فرط

استغراقه في ذكره  ربه، واستغراقه في محاسبته نفسه..

وفاته رحمه الله

وحان أجل معاذ، ودعي للقاء الله...
وفي سكرات الموت تنطلق عن اللاشعور حقيقة كل حي، وتجري على لسانه ،ان استكاع

الحديث، كلمات
تلخص أمره وحياته..
وفي تلك اللحظات قال معاذ كلمات عظيمة تكشف عن مؤمن عظيم.
فقد كان يحدق في السماء ويقول مناجيا ربه الرحيم:
" الھم اني كنت أخافك، لكنني اليوم أرجوك، اللھم انك تعلم أني لم أكن ّ أحب الدنيا لجري الأنھار، ولا
لغرس الأشجار.. ولكن لظمأ الھواجر ومكابدة الساعات، ونيل المزيد من العلم والايمان والطاعة.."  

وبسط يمينه كأنه يصافح الموت، وراح في غيبوبته يقول:
" مرحبا بالموت..
حبيب جاء على فاقه.."
وسافر معاذ الى الله...

 

 المصدر

 كتاب رجال حول الرسول صلى الله عليه وسلم

 

author-img
السلام عليكم زوار ايقونة المعالي اتمنى ان تتم الفائدة من هذه المدونة للجميع

تعليقات

التنقل السريع