القائمة الرئيسية

الصفحات


الامير عبد القادر  الجزائري  

 إنجازات الأمير عبد القادر  فخر الجزائر

تعرف على الأمير عبد القادر الجزائري الذي قاد الحرب ضد الاحتلال الفرنسي :

الامير عبد القادر 

 

هزم 120 جنرال أوروبي.

- قضى على أكثر من 220 الف جندي.

- خاض 116 معركة.

- حارب ل 17 سنة قبل أن يتعرض لخيانة أوقفت مسيرته مؤقتا.

هذا الكتاب المطبوع في لوزان السويسرية، يتحدث عن الخسائر الأوروبية قبل الحرب العالمية الثانية في المستعمرات في كل العالم...

- كانت الجزائر هي اول واكبر مقبرة للقوات الأوروبية المتحدة بالمقارنة مع باقي دول العالم اجمع...

- حيث اقتصر الإحصاء في الجزائر في فترة ما بين ( 1830-1857) اي 27 سنة فقط...

- كان عدد هلكى القوات الفرنسية هو 100

الف قتيل مع مقتل 85 الف في المعارك المباشرة و وفاة 25 الف جندي بسبب الجروح و الأمراض.

- يعني في فترة الامير عبد القادر رحمه الله كانت اكبر خسائر القوات الاوربية عبر ا

لتاريخ في العالم اجمع ...

- الاحصائيات امامكم .... الأرقام لا تكذب و خاصة لما تكون من سويسرا ...

فما بالك لو تجمع معها خسائرهم في ثورة بوعمامة و الآخرين رحمهم الله... ستجد أرقام هائلة تعرض لها الحلف الأوروبي...

هذه الثورات هي ما جعل فرنسا والقوات الاوروبية تستغرق 115 سنة كي تتوغل 400 كلم في داخل عمق الأراضي الجزائرية.... نعم 115 سنة كاملة كي تقدموا 400 كلم فقط


 

 

فمن هو الأمير عبد القادر؟

 تعريف الأمير عبد القادر  الجزائري

هو قائد سياسي وعسكري مجاهد

 عرف بمحاربته للاحتلال الفرنسي للجزائر قاد مقاومة شعبية لخمسة عشر عاما أثناء بدايات غزو فرنسا للجزائر، يعتبر مؤسس الدولة الجزائرية الحديثة ورمز للمقاومة

الجزائرية ضد الاستعمار والاضطهاد الفرنسي، نفي إلى دمشق حيث تفرغ للتصوف والفلسفة والكتابة والشعر

 

علم مجاهد، ومقاوم شاعر

 بايعه الجزائريون عام 1832

 

أميرا لمقاومة المستعمر الفرنسي.

 مرت حياته بثلاث مراحل أساسية، الأولى قضاها في طلب العلم والتعرف على أوضاع

البلدان العربية في طريق الحج، والثانية عاشها في الجهاد ومقاومة العدو، وقضى الثالثة أسيرا في فرنسا ثم مناضلا محتسبا في دمشق.

.

الدراسة والتكوين

تلقى تعليمه الأولي بالزاوية التي كان يشرف عليها أبوه محي الدين شيخ الطريقة الشاذلية، وانتقل بعد ذلك إلى مدينة وهران، فتلقى عن عدد من علمائها أصول العلوم، كالتاريخ والفلسفة والرياضيات والأدب العربي وعلم الفلك والطب وغير ذلك.

التجربة السياسية

اصطدم والده محي الدين بالحاكم العثماني لمدينة وهران، فوضعه تحت الإقامة الجبرية في بيته، وفي عام 1825 سمح له بأداء فريضة الحج فخرج وابنه عبد القادر.

زار عبد القادر خلال تلك الرحلة العديد من الدول العربية بداية من تونس ثم مصر

فالحجاز وصولا إلى بلاد الشام فالعراق التي زار فيها ضريح عبد القادر الجيلاني مؤسس الطريقة القادرية التي تضم الزاوية التي كان يشرف عليها والده.

بعد ذلك مر على الحجاز، وفي عودته إلى الجزائر عرج على مصر وطرابلس واستقر في

قريته (القطنة)، ومكنت الرحلة عبد القادر ووالده من الابتعاد عن سيطرة حاكم وهران الذي كان متخوفا من النفوذ العقائدي لعبد القادر ووالده محي الدين.

بعد عامين من ذلك تعرضت الجزائر للاحتلال الفرنسي في شهر محرم عام 1246 الموافق 5 يوليو/تموز 1830، وهي المرحلة الأهم في حياته لما حفلت به من تطورات خطيرة تتعلق بمواجهته للفرنسيين، فبعد أن اعتذر أبوه عن قيادة المقاومة الشعبية تولى هو قيادتها

الأمير عبد القادر الجزائري

نسب الأمير عبد القادر

هو عبد القادر بن محيي الدين بن مصطفى بن محمد بن مختار بن عبد القادر بن أحمد

المختار بن عبد القادر بن أحمد المشهور بابن خده بن محمد بن عبد القوي بن علي بن
أحمد بن عبد القوي بن خالد بن يوسف بن أحمد بن بشار بن محمد بن مسعود بن
طاووس بن يعقوب بن عبد القوي بن أحمد بن محمد بن ادريس الأصغر ابن ادريس
الأكبر بن عبد الله المحصن بن حسن المثنى بن حسن السبط بن علي بن أبي طالب وأمه
فاطمة الزهراء بنت سيد الوجود محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.1
فقد كانت اسرة الأمير عبد القادر تعتز بامتداد حلقاتها إلى هذا المعدن الشريف ففي
القرن الثامن هاجر إدريس بن عبد الله الكامل بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن
علي بن أبي طالب وفاطمة الزهراء بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المغرب،هاربا
من بطش  العباسيين، وأنشأ دولة الأدارسة وعاصمتها فاس، ودام حكمها حتى النصف
الثاي من القرن الثاي عشر وبعد أن سكنت بعض سلالات العائلة الكبيرة الأندلس
انتقل أحد اجداده عبد القوي الأول في نهاية القرن الخامس عشر بعد سقوطها عام
  
1492 م واستقر بقلعة بني حماد قرب سطيف.
وذكر محمد محمد الجوزي أن عبد القادر بن أحمد المعروف بابن خده وهي مرضعته كان
  حاكما لمناطق  غريس، عالماً مهيباً فقهياً تولى الرئاسة بعد موت من خلفهم من أجداده

 الأدارسة وألف كتباًكثيرة، وتوفي رحمه الله في القرن العاشر للهجرة ، وأما جده مصطفى 
  
فقد أسس الزاوية القادرية، نسبة إلى الشيخ عبد القادر الجيلاي بعد أن زار مدينة بغداد
عام 1791م واشتهرت أسرته بالورع وكانت قدوة للناس في الجهاد والعلم وتوفي جده
مصطفى بعين غزالة قرب مدينة درنة في إقليم برقة شرق ليبيا عام 1797م عند عودته
من الحج، ودفن في نفس المكان وما يزال قبره معروفاً حتى الآن.

ولد والده محيي الدين بقرية القيطنة عام 1776م ودرس على يد أبيه مصطفى وورث
عنه مشيخة الزاوية القادرية، وأشتهر والده بسداد الرأي وغزارة العلم وقاوم ظلم بايت
الغرب الجزائري منذ عهد علي قارة الذي حكم من عام 1812م إلى 1817م وآخرهم
حسن بن موسى الذي حكم من 1827م حتى 1830م

 

 متى ولد الأمير عبد القادر

  مولده ونشأته

ولد في 25سبتمبر 1807م في قرية القيطنة، وأمه السيدة بنت عبد القادر بن خدة
وهي تنحدر من بيت علم وتقوى من أولاد سيدي عمر بن دوحة ،
2تلقى دروسه


الابتدائية في مسقط راسه تحت اشراف والده الذي بذل قصارى جهده ولم يدخر جهداً
في سبيل ذلك، فأخذ منه القراءة والكتابة واتقنها في سن مبكرة جداً ولفت نظر والده
ذكائه ونبوغه وختم القرآن الكريم قبل أن يبلغ الحادية عشر، وأصبح فارساً يشار إليه
وبرع في تلقي العلوم التاريخية والفلسفية والفقهية وتعلم مبادئ شتى العلوم اللغوية
والشرعية ونال درجة الطالب وكلف بتحفيظ القرآن للأطفال وإلقاء الدروس والتفسير في
الزاوية، ومن أجل إتَام دراسته سافر عام 1821م إلى مدينة أرزيو الساحلية التي تقع
شمال مدينة معسكر على بعد حوالي سبعين كيلو متر، وذلك على يد القاضي الشيخ
أحمد بن الطاهر البطيوي الذي كان مشهوراً بغزارة العلم وسعة الاطلاع  وبعدها رحل

إلى مدينة وهران إلى مدرسة العالم الفقيه أحمد بن خوجة، صاحب رائعة در الأعيان في

أخيار وهران، وتوسيع في المعارف اللغوية والفقهية والنحو والبيان والفلسفة والمنطق
وصقل ملكاته الأدبية والشعرية واجتهد في حضور حلقات العلم لعلماء وهران مثل
الشيخ مصطفى الهاشمي والشيخ بن نقريد وقضى عامين كاملين في هذه الرحلة العلمية
وعاد إلى مسقط رأسه وتزوج بابنة عمه الآنسة خيرة بنت أبي طالب عام 1823م وأقام
    وأقام في القيطنة معلما
 
  وكانت له رحلات علمية للقرويين والزنيونة ، وكانت البيئة التي عاش فيها بيئة إسلامية
وتربوية إيمانية واجتماعية متماسكة وفي ظلها تكونت شخصية وهي التي أثرت في تكوينه
النفسي والجسماي والفكري والاجتماعي والسياسي وهذا التكوين يعود إلى عوامل منها:
العامل الوراثي والبيولوجي والعقلي للأمير .
البيئة الثقافية والاجتماعية التي نشأ في ظلها وعاش فيها .
لقد سمع الأمير عن ذلك التصرف من والده الذي لاشك قد ُ حفر في ذاكرته وهو محاربة
والده لأصحاب الطرق الصوفية الشاذة .
فقد جاء في كتاب تحفة الزائر: أصل ابن الشريف من الكسانة قبيلة بوادي العبد قرب
غريس، أخذ العلم في صغره عن سيدي محيي الدين في مدرسة القيطنة ثم رحل إلى
المغرب الأقصى ولقي الشيخ العربي الدرقاوي وسلك طريقته وقفل راجعا إلى وطنه وجاء
إلى حضرة سيدي محيي الدين زائراً، وفي بعض الأيم تكلم بحضرته بما يوجب تأديبه شرعاً
فأدبه سيدي الجد بالسياط واستتابه.


فهذا الحادث التاريخي ليس دليلاً فقط على منزلة والد الأمير عبد القادر ومكانته

الاجتماعية والدينية إنما هو دليل على الوقوف في وجه أصحاب الطرق المنحرفة ومحاربة

البدع ومحاربة الابتعاد عن الشرع والسنة والاجماع، والأمير عبد القادر أيضاً أثناء

وفي عهد دولته حارب اصحاب الطرق المنحرفة، ووقف في وجه نشر دعوتهم وفضح
أمرها   
فالطرق الصوفية في شمال أفريقيا أحد الروافد الثقافية والفكرية وقد تعامل معها العلماء
وفق المعايير العلمية القائمة على العلم والانصاف في الافراد والمناهج، لقد كان السيد
محيي الدين والد الأمير عبد القادر من الشخصيات المهمة في التأثير على ابنه الأمير
و كان رجلاً مهاباً محترماً، ليس لكونه قادريًا كما تردده أقلام الدعاية فقط وإنما لكونه

 عالما فقيهاً وحكيماً وشجاعاً، امتاز بالأخلاق الإسلامية والصفات الحميدة والنبل الكريم
وعلو منزلته العلمية وهيبة قبيلته بني هاشم التي يمتد نسبها إلى الادارية وحتى عند ولاة
العثمانيين كانت له منزلة خاصة و كان مرهوب الجانب من قبلهم جميعا بدافع تقدير
ومحبة، فأمر طبيعي ظهور هذه الآثار الوراثية على أولاده ومنهم الأمير عبد القادر، فقد
برزه هذه الآثار على الأمير في سن مبكرة من ذكاء ومواهب فكرية وسرعة بديهة
وشجاعة ومهارة بفنون الفروسية من ركوب الخيل والسباحة واستعمال السيف إلى جانب
نفس أبية وإيمان قوي ومحبة وجدانية وعقلية لخالق هذا الكون ومبدع تلك الطبيعة الغناء
التي نشأ في احضانها، فالحياة البسيطة في هذه المزرعة والمناخ السياسي الذي نشأ فيه،

كان صحياً ومتماسكاً في جزء من دولة كبرى أمنت الاستقرار والازدهار  للجزائر

وحاربت البدع وأصحابها.

الأوصاف المعنوية

لقد وصف العديد من المؤرخين الأذواق والعادات والسلوك الاجتماعي لعبد القادر منها

كان يزدري الترف في الملبس، فكانت كسوته بسيطة ولكنها نظيفة، كان غاية في التدين
ويحمل دوماً مسبحة لا يقف عن التسبيح بها ذاكراً اسم الله و كان باستطاعته امتطاء

الفرس لمدة يوم أو يومين، و كان زاهداً مثالياً، كان الأكل عنده على الأكثر  الروينة

وهي نوع من العصيدة مصنوعة من طحين وحليب في كمية صغيرة، فلم يكن يقبل
الطعام إلا لقوته وليس لذاته، في قلة الأكل وفرة للصحة هذا ما كان يقوله و كان عفيفا
عن الأموال وكان يمتنع من اقتطاع أي شيء من الخزينة العامة لأغراضه الشخصية، وكان
يراقب موظفيه ويمنعهم من الإسراف، كما كان يحب الكتب ويهتم بجمع المخطوطات،
وكان يشجع الشعراء والكتاب الذين كانت أناشيدهم الملحمية تغذي إيمان المقاتلين وكان
يتذوق الشعر وله ملكة شعرية تدلنا أشعاره عليها وتسجل أشعاره فترة تجديد في الشعر
الجزائري، يكمن طابعها الجذاب دائماً في كونها ذات علاقة بالفعل والعمل وأنها تحمل
إيمانه الوطني، اللغة، الصورة المجازية، تراكيب الأسلوب.. كلها مهدت لتجديد أدبي
ينسجم مع مرحلة النضال والكفاح والجهاد والبناء.

لم يكن قاسيا بطبعه وخيرات الأرض لم تسيطر على قلبه وقتاله للمسيحيين لكونهم
معتدين غاصبين لا لدينهم، كان يؤم جنوده للصلاة يومياً و كان يتأمل ويتدبر في معاني
الصلابة والثبات والصمود من إيمانه العميق والمنهج الرباي في العسر واليسر والمنشط
والمكره والرخاء والشدة

    الِحج

كانت قافلة الحجيج  أهم قافلة دينية وتجارية  تنطلق من شمال أفريقيا
إلى المشرق وكان هناك عدة طرق للحج، يذهب الحجيج المغاربة كل سنة إلى البقاع
المقدسة مصحوبين بعدد كبير من الإبل المحملة بالبضائع من الأقمشة الصوفية والأحذية
المغربية، كالبلغة والشواشي بل حتى العبيد السود أحياناً، فبعد أن يتجمع الحجيج في
مدينة فاس وتازة بالمغرب الأقصى، ويكونون الركب الفاسي تنطلق القافلة، فمنهم من

يأتي سائراً على قدميه، والبعض الآخر يمتطي الخيل أو البغال أو الحمير أو الإبل وتعبر
الجزائر سواء عن طريق الجريد عبر عين ماضي والأغواط وقرية أولاد جلال وبسكرة لتصل


إلى مدينة قابس التونسية، أو عبر الطريق الساحلي مروراً على وادي ا لشلف وقسنطينة  
ومدينة تونس، وخلال مسار الطريق يتضخم الركب بحجيج كل بلد، ثم تصل القافلة إلى
طريق بعد رحلة تدوم ما يفوق شهرين وفي طرابلس يستجمع الحجيج قواهم ثم يستأنفون

رحلتهم إلى أن يصلوا إلى القاهرة بعد أربعين أو خمسين يوماً أخرى من السفر وبعد ما
ينظموا للركب المصري يتوجهون مباشرة إلى مكة المكرمة لأداء فريضة الحج بعد أن يكونوا
قد قطعوا مسافة أربعة الآف وسبعمائة كلم تقريباً وفي البقاع المقدسة تتم مقايضة السلع
المحملة من المغرب العربي بالأقمشة الموصلية الحريرية الشرقية والأنسجة الفارسية والهندية
الثمينة والعنبر والتوابل، وبعد أداء فريضة الحج ينصرف الحجاج عائدين أدراجهم، وفي
القاهرة يتزود الحجيج المغاربة بما تبقى لهم من أموال بالحرير الخام والقطن وعند رجوع
الحاج إلى بلده يكون قد ضاعف عدة مرات قيمة البضائع التي حملها معه بعدما اجتاز

ذهاباً وإيباً، حوالي عشرة الآف كلم، متحصناً بالاعتماد على الله، واحتسابه الأجر
والمثوبة منه ومستعينين بالله للتغلب على مخاطر ومهالك أثناء الطريق من وباء أو اغتيال
من طرق قطاع الطرق، وعند الوصول كل إلى بلده يتوجه التجار الحجيج مصحوبين
ببضاعتهم مباشرة إلى إحدى الأسواق الكبيرة لبيعها.

 

رحلة الأمير عبد القادر مع والده للحج:

تحرك السيد محيي الدين مع ابنه عبد القادر إلى الحج عن طريق البر والبحر، فكانت
بدايتهم من وهران مروراً بوادي الشلف وبرج حمزة فمدينة قسنطينة ثم محطة الكاف

ومنها
إلى مدينة تونس وكنا في كل محطة نزل عند إخواننا وأحبائنا الذين فرحوا بمقدمنا ومقامنا
عندهم ومن تونس ركبنا البحر متجهين إلى الأسكندرية زرنا معالمها ووقفنا عند باب
البحر عند مقامي الشيخ أبي العباس المرسي وأبي الحسين وانتقلوا بعدها إلى القاهرة
بالمقطم مقام مرشد السالكين الشيخ ابن عطاء الله السكندري أحد شيوخ الطريقة
وزاروا
الشاذلية كما زاروا مساجدها العريقة وتعرفوا على أعيان المدينة وكبراءها وجالسوا علماءها
  أمثال الشيخ علي بن محمد الميلي، والشيخ المعروف بابن الأمير، وأعجبوا شديداً بما
وصلت إليه الحياة في مصر من تقدم وازدهار في شتى المجالات العلمية والاقتصادية
والصناعية و كان ذلك في عهد محمد علي باشا وقد تحدثنا عنه سابقاً وبعد هذه
الاستراحة في مصر سافرنا مع الركب المصري ووصلوا قناة السويس فركبوا البحر الأحمر
نحو جدة ثم مكة المكرمة وبعد أداء فريضة الحج زاروا المدينة المنورة وصلوا على الرسول
صلى الله عليه وسلم أمام قبره وترحموا على الصحابة والتابعين المدفونين بالبقيع ومن
المدينة وحلوا إلى دمشق بصحبة الركب الشامي ومكثوا فيها عدة أشهر وتعرفوا على
مشاهير الصلحاء والعلماء والأعلام وكانوا يقضون جل وقتهم في الجامع الأموي دائبين
على القراءات وحضور حلقات الدرس العلمية التي كان يدرس فيها كبار العلماء، وقرأوا
الحديث وصحيح البخاري بالجامع الأموي على الإمام المحدث عبد الرحمن بن محمد
الكزبري الشافعي الدمشقي محدث الدير الشامية والمشهور بتدريس البخاري الشريف
وكانت عامة العلماء تحضره للأخذ عنه وأخذوا العلم على يد غيره من علماء الشام ثم
توجهوا إلى مدينة بغداد واستقر بهم المقام فيها وزاروا مقام عبد القادر الجيلاي وجددوا
العهد مع نقيب الأشراف وشيخ الجادة القادرية الشيخ محمود القادري الجيلاي وبعد
مقام عدة أشهر غادروا بغداد نحو الشام من جديد ولم يتجهوا غربا مباشرة لخطورة
الطريق وانتشار قطاع الطرق ومن الشام توجهوا إلى المدينة المنورة ثم مكة وأدوا مناسك
الحج للمرة الثانية، وبعد أيم التشريق انصرفوا نحو القاهرة مع الركب الحجازي الذي قدم
من المغرب العربي للحج في رحلة صيفية حارة عام 1828م ومن القاهرة اتجهوا صوب
إقليم برقة وزاروا قبر والد محيي الدين بعين غزالة قرب قرية درنة وبعد اجتيازنا للجبل
الأخضر واصلوا طريق الساحلي ووصلوا إلى مدينة بنغازي البحرية ومنها وصلوا الطريق
غرباً وتوقفوا بمصراتة على  مقام سيدي أحمد بن عيسى البرنوسي الفاسي المشهور باسم
الزروق، ثم اتجهوا إلى تاجورة طرابلس الغرب وواصلوا السير حتى وصلوا إلى بن قردان
بالجنوب الشرقي الساحلي لتونس ثم اتجهوا شمالاً إلى مدينة قابس، بعدها انحرفوا إلى
القيروان، ثم شمالاً إلى الكاف على الحدود الغربية لتونس ومنها دخلوا إلى الجزائر ووصلوا
قسنطينة ثم قلعة بني حماد ثم برج حمزة بالقرب من مدينة البويرة حالياً فوادي الشلف

مروراً على المدية ومليانة وأخيراً وصلوا إلى أهلهم بمعسكر سالمين غا نمين  .


نداؤه إلى سلطان المغرب ليأخذ بزمام المقاومة :   

سبقت العودة من الاراضي المقدسة سقوط العاصمة بقليل وكان رد الفعل تجاه الغزو
الفرنسي في القطينة كمثيله في كافة أرجاء البلاد وظن الناس في البداية أن الاحتلال لن

يكون إلا مؤقتاً لأنه سبقت حالات أخرى مماثلة له ولم تدم بل مرت كسحابة صيف،
غير أن القلق قد بلغ معظم الجزائريين عندما ظهر جلياً أن فرنساكانت تنوي البقاء نهائياً
في الجزائر ومد غزوهم إلى كافة البلاد وقد أدى ذهاباً الأتراك إلى فوضى واضطراب في
الأرجاء الداخلية للبلاد وحاول الشيخ محيي الدين وابنه عبد القادر أن يعيد اقرار
السلامكما كان الحال في كل الأرباع الأخرى من البلاد، وكان الشيخ محيي الدين قد ترأس
العديد من اجتماعات الأعيان المرابطين حول هذا الموضوع بالذات، لقد سادت الفوضى
كل الارجاء واقترح الشيخ أن يلجأ إلى سلطان المغرب الأقصى ليقود المقاومة ذلك لأن
قوة منظمة هي الوحيدة الكفيلة بالوقوف في وجه الغزو قبلت القبائل هذا المقترح وبعثت
بوفد إلى السلطان مولاي عبد الرحمن، ليقترح عليه قيادة المقاومة ضد الغزاة وقبل
السلطان ذلك، وبعث ابنه الذي أتى على رأس جي صغير مكون من 500فارس
ودخل تلمسان بموكب ضخم، فكانت البشرى والفرح العارم وكان أهالي الجزائر مع
التضامن المغاربي لدحر فرنسا المعتدية الغازية لدير المسلمين.
كانت سمة السلطان كبيرة في أرجاء الجزائر وكانت تؤدي صلاة الجمعة باسمه كما كانت
تؤدى في مملكته نفسها ولكن هذا الأمر لم يدم ودخل السلطان المغربي مع فرنسا في
اتفاقية مكناس بتاريخ 22مارس 1832م التي جرت بين السلطان وممثل المارشال
وهكذا فإن الوصاية المغربية على الجزائر لم تدم أكثر من سنة بقليل وكان على الوفد
الجزائري وأن يغادر العاصمة المغربية دون الحصول على المساعدة المرغوب فيها ماعدا
اعتراف سيدي محيي الدين بالسيادة ولو الاسمية للسلطان.


بيعته

 


ثانياً:
بعد الجهود العظيمة التي بذلها السيد محيي الدين للتصدي للغزاة وقيادة القبائل للجهاد

في سبيل الله رأى الناس أهمية مبايعته ولكنه اعتذر بكبر سنه ودفع المواطنين للتفكير في
مبايعة ابنه عبد القادر لقناعته بقدرته على ذلك واتفق مع الأهالي على موعد لعقد البيعة
صباح الأثنين يوم الثالث من شهر رجب 1248ه / 1832م وفي ذلك الصباح المشرق

لم يفاجأ سكان مناطق غريس بقدوم زعماء مناطق بعيدة إذ كثيراً ما كانوا يأ تون

للاجتماع بالشريف محيي الدين في هذا المكان، ويجلسون تحت الدردارة للتشاور معه أو
لعقد ندوات فقهية أو لحل مشكلة اجتماعية ولكن هذه المرة لاحظ السكان أن العدو
أكبر من المعتاد بكثير، ولابد أن الأمر جلل، وأخذوا يتهامسون فيما بينهم وعندما علموا
أن نجل الشريف محيي الدين مرشح سلطاناً على البلاد كبروا بأعلى أصواتهم "الله أكبر"
ولم لا يكون وهو شاب قوي على درجة عالية من العلم وفارس شجاع، وسيم الطلعة،
شريف النسب، كريم ومتواضع، ومعظم القبائل تكن لسيدي محيي الدين وأولاده محبة
واحتراماً، وبعد ساعات غ ّ ص المكان بوفود زعماء القبائل وأعيان المدن والأشراف
والعلماء وزعماء القبائل الشرقية والغربية، عطاف وسنجاس وبنوالقصير ومرابطوا بيجاية
وجميع بنو خديد وبنو العباس وعكرمة وفليتة والمطاملية ومجاهر والبرجية والدوائر والزمالة
والغرابة واليعقوبية وخيموا في مناطق أريحة من مناطق غريس حول شجرة الدردار وكان
يجلس في ظلها بصدر المكان الشريف محيي الدين بطلعته القور ولباسه الجزائري وحوله
جميع أفراد عائلته من إخوة وأولاد عم وأبناء هذه الشجرة الموغلة في القدم كانت حتى

الماضي البعيد مر كزاً للاجتماعات والتشاور .

جلس عبد القادر إلى جانب والده وإخوته الذين علت وجوههم ابتسامة الرضا لأن كلا
منهم كان يدرك أن شقيقهم عبد القادر كان أكثرهم شجاعة وقوة تحمل وكانوا يحبونه
ويفخرون به، ولم يبد أي منهم اعتراضاً على اختيار أبيهم له وعندما اكتمل هذا
الاجتماع التاريخي تقدم الوالد من عبد القادر مبايعاً وشد على يده قائلاً:كيف ستحكم
البلاد ي ولدي،؟ أجاب عبد القادر: بالعدل والحق الذي أمر به رب العالمين، سأحمل
القرآن بيد وعصا من حديد بيد أخرى، وسأسير على هدي كتاب الله وسنة رسوله، ثم
التفت الوالد سيدي محيي الدين مخاطباً الجموع قائلاً لهم: إنه ناصر الدين عبد القادر بن
محيي الدين لقب ليس سلطاناً ولا ملكاً وإنما أميراً عليكم أيها الأخوة المؤمنون، ثم
1اتقدمت عائلته تشد على يده مبايعة وتلاهم الأعيان ورؤساء القبائل حسب مراكزهم
والعلماء والأشراف وكل من حضر ذلك الاجتماع التاريخي العظيم وكان جميع زعماء
القبائل يرتدون اللباس الجزائري القومي المهيب والأنيق وكأنهم في عيد.
مكان التوقيع على نص المبايعة:
قبل مغادرة تلك الجموع المكان وقف الشريف محيي الدين فيهم إماماً وصلى صلاة
العصر وبعد أن صلى ركعتين صلاة الاستخارة اقترح أن يكون التوقيع على نص المبايعة
في مسجد الحسن في عين البيضاء، فوافق الجميع لما لهذا المسجد من مكانة تاريخية
حافلة بالأمجاد، لقد كان منبراً علمياً ومنطلقاً للمجاهدين عام 1797م ضد الغزو
الإسباي ، وشيد الباي محمد بن عثمان في محازاته معهداً علمياً تخرج فيه أعداد كبيرة من
الطلبة شاركوا في تحرير وهران من قبضة الإسبان، واختاروا موعداً ليوم التوقيع على المبايعة
الثالث عشر من رمضان 1248ه والرابع من شباط فبراير عام 1833م وكان الشريف
قد كلف منذ فترة أخاه العلامة علي بن أبي طالب بن مصطفى بن المختار بكتابة نص
البيعة بمساعدة بعض العلماء والأشراف كالسيد محمد بن حوا، والعالم محمد الثعالبي،
والسيد عبد الرحمن بن حسن الدحاوي وإخوته العلماء والسيد محمد بن عبد الله المشرفي،
وعبد القادر بن محمد بو طالب، وفي هذه المناسبة رأى ناصر الدين عبد القادر بن محيي
الدين وقبل توقيع المبايعة أن من واجبه إرسال رسالة إلى الخليفة العثماي السلطان محمود

يخبره فيها بالأحداث وما آلت إليه البلاد بعد استسلام الّ داي حسين، والفوضى التي
حدثت وعن مقاومة الغزو واستبسال أبناء الشعب بالدفاع عن دينهم وكرامتهم ودورهم
ومساجدهم ،2كان الأمير يكن كل الاحترام والتقدير للدولة العثمانية وسيأتي الحديث
عن ذلك بإذن الله في محله وسرى خبر مبايعة عبد القادر بن محيي الدين بين القبائل
فأخذت الوفود تترى على دار الشريف محيي الدين في القيطنة راغبة بالطاعة والمبايعة

على كتاب الله وسنة رسوله الله عليه
الصلاة  وسلام وعلى الجهاد وفي الموعد المحدد وبعد
صلاة الفجر انطلقت عائلة الشريف محيي الدين من القيطنة على متن الجياد نحو جنوب
ً
مدينة معسكر في ضاحية العين البيضاء حيث يقع المسجد المذكور الذي اشتهر أيضا
بجمال بنائه وحدائقه العالية الرشيقة التي غطى نصفها الضباب، وفور وصولهم قفزوا عن
جيادهم وسلموها للسياسي ثم خلعوا أحذيتهم ووضعوها في المكان المخصص ودخلوا
قاعة المسجد الواسعة المفروشة بالسجاد الفاخر ولّ فوا حول أجسادهم برانسهم البيضاء،
ثم جلس الشريف محيي الدين وإلى جانبه أولاده وعندما دخل رؤساء القبائل الجزائرية
وقف عبد القادر بن محيي الدين وفي عينيه بريق العزم والإخلاص والإيمان وقد تزّ مل برداء
الهيبة التي اشتهر بها ووسامة المحيا وبياض البشرة وتناسق الجسم.1

خطبة الأمير عبد القادر للجموع ونص البيعة:

خاطب زعماء القبائل والأعيان وممثلي العشائر والعلماء فقال: بعد ذكر اسم الله الرحمن
الرحيم والصلاة على رسوله بادرهم بقوله: إنني لست أفضلكم خلقاً وشجاعة وحكمة،
ولم يخطر لي هذا المنصب يوماً ولكنني أجبرت عليه كما تعلمون فهو مسؤولية أمام الله
وأمامكم، أرجو منه تعالى التوفيق والعون لتطهير البلاد من الغزاة ورفع راية الإسلام عالية

في سماء بلادنا، فالإسلام هو الذي وحّد قبائلنا بعد شتات وجعلها قوة لا تقهر، تدفعنا
ميادين المجد والشرف وجعلنا إخوة يحب أحدنا لأخيه ما يحب لنفسه ولا فرق بين عربي
وأعجمي ولا أبيض ولا أسود إلا بالتقوى وأمرنا بالعدل والمساواة وإذا عدنا إلى التاريخ


نجدكل من دخل هذه البلاد غازيً من رومان وفاندال وإسبان هزمتهم قوة بأس وشجاعة
الأجداد، وكان هدف غزوهم لبلادنا إخضاع شعوبنا وإذلالها ونهب خيرات بلادنا لزيدة
رفاهية شعوبهم والذين حالف النصر أعلامهم من الفاتحين حملوا إلى هذه البلاد حضارة
إلهية، وشيدوا صروحاً من القيم باقية إلى الأبد لا ينضب معينها ودخلوا هذه البلاد

لتكون دعوة الإسلام حرة فيها، قال تعالى ": َ وَ ما أرسلنَا ك إِلاَرحمَةً لِّلَعالَمين" (الأنبياء،
آية : .)107ومدينة راقية لا تزال آثارها تشهد عليها في مدننا في فاس، وقرطبة،
وغرناطة، وإشبيلية، وفي وهران، وقسنطينة، إخوتي في الإسلام، أيها السادة زعماء القبائل
والعلماء أيها المجاهدون من أبناء هذا الوطن العظيم سنكون أقويء سندافع عن الراية

والرسالة التي حملها لنا طارق بن زيد وموسى بن نصير وسيظل ارتباطنا وثيقاً بدولة
الخلافة العثمانية ارتباطاً روحياً بنظامها الإسلامي، ولن نكون جاحدين لأعمال الأخيار
من الولاة في خدمة الإسلام ومحاربتهم لقوى الشر في بلادنا ولن تخرج دولتنا عن طاعة

الخليفة، ولن نكون عوناً لأعدائها عليها، و كما قال والدي: هذا المنصب الذي ا خترتَوي
له لن يكون متوارثاً وأرفض لقب سلطان أو ملك
حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (
    التوبة، آية129    والسلام عليكم ورحمة الله
وبركاته

فلاقت هذه الخطبة حماساً منقطع النظير من جموع الحاضرين، وضج المسجد بأصوات
الرجال "الله أكبر" ثم نهض العالم الفقيه محمد بن حوا وكان يرتدي الثوب الجزائري وفوقه

البرنس الأبيض وعلى رأسه العمامة البيضاء، وقرأ نص المبايعة:
(بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله أجمعين، بعد مبايعة
الإمام الجليل الشريف محيي الدين وتنازله عنها لولده عبد القادر بن محيي الدين أحيا الله
بهما الدين وأعانهما على القيام بإعلاء كلمته وأهلك بدولتهما أهل البغي والفساد والغزاة
المعتدين، نحن جميعاً علماء غريس وأشرافها وما جاورها وزعماء قبائل العباس والخالدي
والإبراهيمي والحساي والعوفي والجعفري والبرجي والشقراي والزلامطة ومغراوة وبني السيد
وحق الخلوية والمشارف وكافة أهل وادي الحمام وزعماء الدوائر والزمالة وبني خويدم
وعكرمة وفلقية والمفاحلية والغراية والحساسة وأولاد الشريف وصدامه وكل من حضر هذه

البيعة، نبايع أبا المكارم ناصر الدين عبد القادر بن محيي الدين صاحب الفضل المجاهد
الشجاع ذا النسب الشريف قامع أعداء الله الظالمين أيده الله بنصره، نبايعه على الجهاد
والحكم بكتاب الله وسنة رسوله وعلى الطاعة، ونصره الله في السراء والضراء ومن ينكث
فإنما ينكث على نفسه وخسر يومه وأمسه والله الموفق.)
وخرجت الجموع متفائلة مستبشرة يهنئ بعضهم بعضاً.  


رسالة من الأمير عبد القادر إلى سائر القبائل في أنحاء البلاد

الحمد لله، إلى قبيلةكذا.. خصوصاً أشرافها وعلماؤها وأعيانها وفقكم الله وسدد أمور كم،
وبعد فإن أهل معسكر وغريس الشرقي والغربي ومن جاورهم واتحد بهم قد أجمعوا على

مبايعتي وبايعوي على أن أكون أميراً عليهم وعاهدوي على السمع والطاعة في اليسر
والعسر، وعلى بذل أنفسهم وأولادهم وأموالهم في إعلاء كلمة الله، وقد قبلت بيعتهم


وطاعتهم، كما أنني قبلت هذا المنصب مع عدم ميلي إليه مؤملاً أن يكون وا سطة لجمع
كلمة المسلمين ورفع النزاع والخصام بينهم وتأمين السبل ومنع الأعمال المنافية للشريعة
المطهرة وحماية البلاد من العدو، وإجراء الحق نحو القوي والضعيف فلذلك ندعوكم


لتتحدوا وتتفقوا جميعاً وأعلموا أن غايتي القصوى اتحاد الملة المحمدية والقيام بالشعائر
الأحمدية وعلى الله اتكالي في ذلك كله فأحضروا لدينا لتظهروا خضوعكم وتؤدوا بيعتكم
وفقكم الله وأرشدكم، حرر عن أمر ناصر الدين عبد القادر بن محي الدين، بمعسكر في
الثالث من رجب سنة 1248ه الموافق 1832 /11 /27م.
ما إن تَت للأمير البيعة حتى قصد منزله وقال لأم أولاده: إن أردت أن تبقي معي من
دون التفات إلى طلب حق فلك ذلك، وإن أبيت إلا أن تطلبي حقك فأمرك بيدك لأي

قد تحملت ما يشغلني عنك. وبطبيعة الحال عبرت له زوجته عن استمرارها في العي معه
وأن تتقاسم معه أعباء المسؤولية.

 

تَجربة جديدة في الِحكم:

جاء الأمير عبد القادر بتجربة جديدة في الحكم، جديدة على العصر الذي عاش فيه

وليست جديدة في التاريخ، عندما رشحه والده للولاية عام 1832م كان أمامه نماذج
من الحكام المسلمين، سلطان آل عثمان، وشاه إيران وملك أفغانستان، ثم ولاة من
أمثال باي تونس وباشا مصر وإمام اليمن وقد كان يمكنه أن يقلد هؤلاء أو حتى يقلد
الداي حسين المخلوع ولكن الأميررفض أن يكون نموذجه أحد هؤلاء جميعا، وأختار
نموذجاً جديداً يؤ ّ صل به الخلافة الراشدية ويرجع به إلى حكم الإسلام في عهده الذهبي.
وإن الدارس يتبين له هذا النهج الجديد القديم في عدة سلوكيات وإعلانات من قبل
الأمير، فقد اتخذ علماً مخلفاً لعلم آل عثمان، استوحاه فيما يبدو من التقاليد الشعبية
وهو قطعة من القماش الأبيض تتوسطها يد مفتوحة والبياض رمز الطهارة والجدة
والصفاء واليد الخماسية ترمز إلى نفي الغريب والتعوذ من الحسود والشرير والغالب على
 

الظن أن هذه اليد كانت صفراء اللون، وعندما يرجع المرء إلى ظروف المبايعة يلاحظ أننا
أمام بعث لتقاليد كاد حكام المسلمين أن ينسوه وهو الخضوع لإرادة المحكومين ودعوتهم
للتعبير عن اختيارهم بمحض الحرية، وكأننا هنا أمام الظرف الذي بويع فيه الخليفة أبو

بكر الصديق أو الخليفة عمر بن الخطاب فهنا أيضاًكانت المبايعة الخاصة ثم العامة ففي
مدينة معسكر كانت طقوس المبايعة تذكرنا بما جرى في المدينة المنورة.
لقد شملت مراسيم البيعة على درس من القرآن الكريم والمصحف باليد، مركزه على عقاب
الله الذي يحل بمن تقاعس عن الجهاد والدفاع عن عرضه وأرضه ومقدساته، وكان الأمير
قد تطور في لهجته حتى بلغ درجة من الحماس حولت القعود إلى قيام يتعاهدون على
الجهاد وذلك عندما التزم للحضور وقال لهم: أنني لن أعمل بقانون غير قانون القرآن،
ولن يكون مرشدي غير تعاليم القرآن، والقرآن وحده فلو أن أخي الشقيق قد أحل دمه
بمخالفة القرآن لنفذت فيه الحكم، وقد أكد على ذلك بقوله لهم: عليكم واجب الخضوع

فيكل الأعمال إلى نصوص كتاب الله وتعاليمه والحكم بالعدل طبقاً للسنة النبوية
ولنقرأ في أول منشور للأمير إلى قومه: إن قبيلة كذا وقبيلة كذا قد وافقوا بالإجماع على
تعيين وبناء عليه انتخبوي لإدارة حكومة بلادنا وقد تعهدوا أن يطيعوي في السراء
والضراء وفي الرخاء والشدة، وأن يقدموا حياتهم وحياة أبنائهم وأملاكهم فداء للقضية
المقدسة "الجهاد" من أجل ذلك إذن تولينا هذه المسؤولية الخطيرة على مضض شديد،
آملين أن يكون ذلك وسيلة لتوحيد المسلمين ومنع الفرقة بينهم وتوفير الأمن العام إلى
كل أهالي البلاد ووقف كل الأعمال غير القانونية التي يقوم بها الفوضويون ضد
المسلمين، وصد وطرد العدو الذي اعتدى على بلادنا مريداً أن يغل أعناقنا بقيوده
ولقبول هذه المسؤولية اشترطنا على كل أولئك الذين منحونا السلطات العليا أن عليهم
دائماً واجب الخضوع، في كل أعمالهم إلى نصوص وتعاليم كتاب الله وإلى الحكم بالعدل
في مختلف مناطقهم طبقاً لسنة النبي صلى الله عليه وسلم.
وبالإضافة إلى ذلك كان عبد القادر هو الذي يقود المعارك الجهادية وهو الذي يؤم الناس
في الصلاة وكان في مراسلاته وأوامره يستشهد بالقرآن الكريم وكان عند كل غروب بعد


العصر يقف أمام خيمته يلقى درساً في الوعظ على قومه ولم يكن من ا لضروري حضور
أي كان، ولكن لم يكن يتخلف أحد، إذا أمكن عن حضور هذه الخطبة الوعظية،

وبذلك كان الجميع يجددون يومياً حرارة الغيرة الحربية والدينية التي كانت تتقد داخل
صدورهم، فكان عبد القادر بذلككأنه منبع رئيسي من الضوء والحرارة لقومه.

وقدكان عبد القادر هو الذي يجلس شخصياً للفصل في المظالم، وهو القاضي الأعلى في
الدولة وأما الولايت فقد فوض لخلفائه "ولاته" القيام بنفس الدور الذي كان يتولاه هو،
وكان الأمير لا يفصل في القضاي الخطيرة كالصلح أو الحرب إلا بعقد مجلس الشورى
وعرض القضية أمامه وأخذ رأيه وتنفيذ ما يتفق عليه الحاضرون.

إن هذا النموذج الذي سلكه الأمير في الحكم كان جديداً قديماً، كما قلنا لأنه لا أحد
من حكام المسلمين عندئذ كان يسلك هذا الطريق، ويبدو أن الأمير لو طال به العمر
واستمر في الحكم لاختار نظام الخلفاء الراشدين أو النظام الجمهوري ولكن بمفهوم ذلك
الوقت، وما نظن أنه كان سيورث الحكم لأحد من أبنائه أو اقاربه، كما فعل الأمويون
ومن جاء بعدهم من حكام المسلمين ،1وقد نص على ذلك: هذا المنصب الذي
اخترتَوي له لن يكون متوارثاً وأرفض لقب "سلطان أو ملك".
بعد هذه البيعة الشعبية حمل الأمير عبد القادر مسئولية الحكم وامتد سلطانه إثر معارك
دامية حتى شمل ثلاثة ارباع القطر الجزائري، وبعد أن استقام له الأمر شرع في تنظيم أمور
الدولة النواة وتشكيل الكوادر الحكومية فعين الأكفاء من الرجال واعتمد الفقه الإسلامي
أي التشريعات المنبثقة من القرآن الكريم والسنة، نظاماً لحكمه وبناء الدولة والجهاد
لتحرير الوطن من الغزاة المحتلين.
بهذه المرجعية الإسلامية المتكاملة التي أثبتت قدرتها على ح ّ ل جميع مشكلات الحياة في
جميع الأزمنة والأمكنة التي دخلها الإسلام وغمرها بسلطانه بدءاً من عهد الرسول صلى
الله عليه وسلم إلى عهد الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم، ويهدي هذا النظام الإلهي
العظيم أراد الأمير عبد القادر السير في حكمه لأنه كان يؤمن أن هذا النظام وحده يمكنه
من مواجهة المشكلات المعقدة الاجتماعية والاقتصادية والزراعية والعسكرية ومن الوقوف
أمام تحديت الأعداء وتوسع المجتمعات وتطورها مع الزمن.

مفهوم البيعة:

عّرف العلماء البيعات بتعريفات عدة منها تعريف ابن خلدون: العهد على الطاعة لولي
الأمر ،

وعرفها بعضهم بقوله: البيعة على التعاقد على الإسلام.
وعّرفت كذلك بأنها أخذ العهد والميثاق والمعاقدة على إحياء ما أحياه الكتاب والسنة

وإقامة ما أقامه، و كان المسلمون إذا بايعوا الأمير جعلوا أيديهم في يده تأكيداً للعهد
والولاء، فأشبه هذا الفعل البائع والمشتري فسمي هذا الفعل بيعة.
إن البيعة بمعناها الخاص هو إعطاء الولاء والسمع والطاعة للأمير مقابل الحكم بما أنزل
الله تعالى، وأنها في جوهرها وأصلها عقد وميثاق بين الطرفين، الأمير من جهة وهو
الطرف الأول والشعب من جهة ثانية وهو الطرف الثاي ، فالأمير يبايع على الحكم
بالكتاب والسنة والخضوع التام للشريعة، عقيدة وشريعة ونظام حياة والشعب يباع على
الخضوع والسمع والطاعة للأمير أو الرئيس في حدود الشريعة.
فالبيعة خصيصة من خصائص نظام الحكم في الإسلام تفرد به عن غيره من النظم
الأخرى في القديم والحديث،   

ومفهومه أن الحاكم والمحكوم كليهما مقيد بما جاء به
الإسلام من الأحكام الشرعية، ولا يحق لأحدهما سواء كان الحاكم أو الشعب ممثل بأهل
الحل والعقد الخروج على أحكام الشريعة، أو تشريع الأحكام التي تصادم الكتاب
والسنة، أو القواعد العامة في الشريعة ويعد ذلك فعل مثل ذلك خروجاً على الإسلام،
 بل إعلان الحرب على النظام العام للدولة، بل أبعد من هذا نجد أن القرآن الكريم ينفي
عنهم صفة الإيمان.

والبيعة عقد لا يحتمل الإكراه.
ويحتمل الشروط المسبقة.
ولا أمامه إلا بعد عقد البيعة.
وأنه لا عقد بيعة إلا برضا الأمة واختيارها.
ولا رضا بلا شورى بين المسلمين في أمر الإمامة وشؤون الأمة.
وأنه لا شورى بلا حرية.
وأنه السيادة والطاعة المطلقة لله ورسوله.
إن الإمارة عقد بين الأمة والحاكم يلتزم فيها الحاكم إنفاذ الشريعة والفصح للأمة
ومشاورتها، وتلتزم له إن هو وفي بذلك السمع والطاعة وينتج من ذلك، أن الأمة هي
مصدر كل سلطاته وأن لها عليه السيادة، كل ذلك في إطار الدستور "الشريعة".



وضعية الباد عند مبايعة الأمير عبد القادر:

بينما كانت فرنسا تثبت وتدعم موقفها في الجزائر وضواحيها والمتيجة حيث نهبت المدية
من طرف البارون دي روفيفو فإن هذا الأخير قد أخذ على عاتقه، مذبحة قبيلة الأوفياء

بالقرب من الحراش وهذا ما أثار غضب قادة القبائل الذين عينوا بن زعموم قائداً لهم،

لقد اضطر هذا الأخير إلى التراجع نهائيا حينما تبين له ضعف المتمردين أثر السحق

السريع لتمردهم كان بايلك الجزائر واقعاً تحت السلطة الفعلية للمحتل الذي كان يثبت
  
وجوده في البليدة التي كان ينوي انطلاقاً منها وصنع حد لهجومات قبيلة حجوط،
وبفضل مد الطرق التي تربط بين المراكز المتعددة في المنطقة والتي كانت تحت تصرف

سيتمكنون من بسط المكاتب العربية" المكونة حديثاً، كان الفرنسيون هكذا يظنون أنهم
الغزو على كافة أرجاء البلاد،  قام المحتل أيضاً بإدماج قوات السبايسية كأعوان
يرافقون الجنود في مهماتهم، كذلك ظهرت بعد ها فرقة القناصة تولي قيادها ابتداء من
1831م قاطع طريق حقيقي ذي أصول مشكوك في أمرها قدم للاحتلال خدمات
عظيمة، غير أن ثمنها تَثل في العديد من أعمال النهب والتقتيل خاصة في منطقة القبائل
وعنابة، و عرف باسم يوسف وقد حمل شارع كبير في أعالي الجزائر اسمه هذا طوال
الفترة الاستعمارية وكان لفرنسا نية مبيتة ثابتة في غزو كامل البلاد على الرغم من
الصعوبات التي اعترضته في التيتري وفي الشرق من طرف أحمد باي، وكذلك الاختلاف
في وجهات النظر بين حكامه والتي ترجع أصلا إلى اعتبارات خاصة بالسياسة الداخلية.
غير أن ما واجهه من عداء من طرف السكان اضطر فرنسا إلى التصرف بمرونة والبحث
عن وسطاء من بين القادة المؤثرين ولو اضطره ذلك إلى اخضاعهم بعد تقوية نفوذه
عليهم، باستعمال الرشوة والخديعة والقوة، هكذا كانت خطة الغزو على مراحل والتي يبينها

وزير الحرب "سولت" في التعليمات التي أخطاها إلى جنرالاً في الميدان الجزائر حيث
يأمرهم بتقدم بطيء انطلاقاً من القواعد العسكرية في الساحل بقية السعي وراء استبطال
بحظوظ وافرة في تحقيق نجاح دائم وثابت، وذلك عن طريق مؤسسات زراعية يقوم
الأوروبيون بانجازها.
وهكذا فالوضعية كانت مقلقة للغاية ذلك أن الفرنسيين وهم يحتلون كل الساحل من
وهران إلى عنابة كانوا قد بدأوا بكل جراءة في سياسة للتوطين في المناطق المحتلة كما
شرعوا بتصلب في صنم القبائل إلى صفوفهم أو تحييدها وشلها إذا ما تعذر ذلك.

بهذا فإن المهمة المناطة بالأمير الشاب كانت من الصعوبة بمكان بالرغم من الحماسة التي
تلت بيعته، فكان عليه أن يحسب حساب قادة القبائل الذين أبدوا له عداءهم كما كان
عليه أيضاً أن يتحكم في اندفاع مناصريه لأجل هذا تقيد بتكوين جي نظامي و كانت
مدينة معسكر التي جعل منها عاصمته المؤقتة مكان التحضير لتدريب جيشه وبهذا فإن
هذه العاصمة القديمة لبايلك الغرب اخذت مكانة كبيرة في دولة الأمير عبد القادر.
لقد ترك انهيار الإدارة التركية خلافة هذه الأخيرة إلى قادة قبائل المخزن الذين لم يكتفوا
برفض الاستجابة إلى نداء الأمير الشاب الذي لم يكن ينتمي إلى طبقتهم الاجتماعية
وإنما تقربوا إلى المحتل الفرنسي ليحافظوا على امتيازاتهم.
والأمير عبد القادر الذي لم يكن يجهل شيئاً عن مساوماتهم كان ينتظر الوقت المناسب
لينتهي من أمرهم و كان مهتما في هذا الوقت باثبات مكانته عند القبائل الموالية له،
كمدافع عن القضية الوطنية مكلف بمهمة طرد المحتلين الفرنسيين من الأراضي المغتصبة،
فكان ينظم حكمه طبقاً لهذا ا لمفهوم .


    ثالثاً  : بناء  الدولة

1|تأسيس الجيش النظامي:
بعد معارك طاحنة خاضها الأمير ضد الجيوش النظامية الفرنسية أدرك ضرورة خلق جيش
نظامي قوي يدعم به أهدافه الداخلية والخارجية، فاتجه إلى انشاء جي نظامي قوي
يدعم به أهدافه الداخلية والخارجية، واهتم بتدريبه على احدث الفنون العسكرية، وزوده

بالاسلحة المتقدمة وقبل أن يباشر بتحقيق هذه الفكرة عقد مجلساً عاماً من رجال الدولة

وأعيانها وأخذ موافقتهم على هذا الاجراء، ثم عمم بلاغاً على الأهالي جاء فيه ليبلغ
الشاهد الغائب أنه صدر أمر مولانا ناصر الدين عبد القادر بن محيي الدين بتجنيد
 
الأجناد وتنظيم العساكر في البلاد كافة فمن أراد أن يدخل تحت اللواء المحمدي ويشمله
هذا النظام فليسارع إلى دار الإمارة في مدينة معسكر لتسجيل اسمه في الدفاتر الأميرية.
تلقى الشعب الجزائري هذا البلاغ بارتياح كبير، وسارع الشباب وتسابقوا للالتحاق
بالجي النظامي الفتى، حتى بلغ عداد أفراده عام 1839م ثلاثة وستين ألف مقاتل وقد
قسم هذا الجي إلى ثلاثة فرق:
أولاً: فرقة المشاة و ّ لى على قيادتها من مشاهير الأبطال قدور بن بحر.
ثانياً: فرقة من الخيّالة و ّ لى على قيادتها عبد القادر بن عز الدين.
 
ثالثا : فرقة من المدفعية و ّ لى على قيادتها محمد السنوسي ولقد اختار الأمير جميع رؤساء
الجند من ذوي الشجاعة والبأس والذكاء من الذين يتحلون بالإيمان والصبر وانتقامهم من
أشراف البيوتات وزعماء القبائل مثل محمد القوشامة وسالم الزنجي وأحمد القدور وغيرهم.
ثم وضع قوانين في كتاب سماه "وشاح الكتائب" ضم أربعة وعشرين قانوناً لها أصول ولها
لعسكري
فروع وقد وضعت جميعاً لمصلحة هذا الجي المحمدي، ولسلامة تكوينه ا
ولضمان قدرته على القتال وتحمل المكاره وللتدريب على الجهاد والصبر، وتَكن الأمير
عبد القادر من الصمود بهذا الجي الناشىء في وجه أكبر امبراطوريت العالم الاستعماري
القديم، وعلى الرغم من إمكانات فرنسا الضخمة تَكن الأمير من محاربتها سبعة عشر

عاماً استولى خلالها على أكثر من ثلثي مساحة الجزائر حالياً، وانتصر عليها في ا لكثير
من المعارك الطاحنة التي بقي ذكرها يتردد حتى الآن على ألسنة الفرنسيين قبل الجزائريين
لما وجدوه من معاملة شريفة لبطل مسلم عظيم، حتى غزت أخباره بيوتهم في فرنسا

نفسها، لأن الأمير عبد القادر جسد جميل المروءات ومحاسن الفضائل في معاملة الأسرى
والجرحى من جيش أعدائه.


و شكل الأمير عبد القادر بجانب الجي الرسمي قوى غير نظامية تعمل على حماية
مناطقها، غير أنها كانت تستطيع عند الضرورة أن تنخرط في الجي النظامي، وذلك
فقط لتلبية نداء الأمير أو خلفائه في الولايت وهذه القوى غير النظامية كانت تتكون

غالبا من المتطوعين وكان عليها أن تتجهز على حسابها الخاص وكان عددها بالألوف
تزيد وتنقص.
وفيما يخص تسليح جيشه النظامي يعطي الأمير نفسه التوضيحات التالية:
كل جنودي النظاميين كانوا مسلحين ببنادق فرنسية أو إنجليزية تحصلت عليها خلال
معاركنا وعند الفارين من الجي أو بشرائها في المغرب.. وكان الكبريت يأتي من فرنسا
أما ملح البارود فكنت أجده في كل مكان خلال زمن السلم وكانت المدن الساحلية
الفرنسية تزودي بالرصاص وقد أعطاي المغرب منه كمية معتبرة، كما أنني تَكنت من
استغلال منجم للرصاص في الونشريس.

وقدكان الأمير يسهر شخصياً علىكيفية استعمال الذخائر ويعطي أوامر صارمة لخلفائه
كي يشحوا في عملية صرفها.
أ هيكلة الجيش النظامي:
كانت المشاة مقسمة إلى كتائب تضم كل منها 1000رجل يقودهم آغا، وكانت هذه
مقسمة إلى سراي من 100جندي يقودها قايد، وكان يقود كل نصفيها سياف وكل
عشرين رجل كان يقودهم ضابط صف، وكل عشرة يقودهم عريف يسمى جاوي.
كان على قادة كل هذه التشكيلات أن يتفقدها الآغا يوم السبت، والسياف يوم
الخميس والسبت اما الجاوي فكان عليه أن يتفقد رجاله كل يوم صباحاً ومساء.
و كان الانضباط جد صارم، وكان يراعى تطبيقه بمنتهى الدقة، وكانت مواده مجموعة
في شكل قانون عام أقامه وكتبه الأمير نفسه.

كما كان سلم الرتب محترماً بمعنى الكلمة و كانت كل مخالفة يعاقب عليها عقاباً شديداً،

و كان على الجندي أن يحافظ على نظافة سترته التي كان مسؤولا عنها، وكذا كانت الحال
بالنسبة للسلاح الذي في حوزته، كانت العقوبات على الإخلال بهذه القوانين تتراوح ما
بين السجن إلى الحكم بالإعدام وهذا الأخير كان يقام في حالة الخيانة أو الفرار في زمن
الحرب ومروراً بنزع الرتب والعقوبات الجسدية.
كان للجندي الحق في راتب، و كان الخيالة يتلقون ضعفه و كان يتلقى غذاءه عيناً ووفيراً
في زمن السلم، ولكنه كان يخفض في زمن الحرب إلى بعض الكعك أو الروينة المصنوعة
من طحين القمح المقلي، وكان على كل شارة علامة مكتوبة.
الآغا كان يحمل: الصبر مفتاح النصر.
وبالنسبة للسياف: لا أضر من المخالفة وعدم الطاعة.
أما لرئيس المدفعية فكانت: وما رميت إذ رميت ولك ن الله رمى.
وكان اللباس العسكري يختلف بحسب الرتب، فكان من الجوخ بالنسبة للضباط ومن
الكتاب بالنسبة للجنود، أما الأسلحة فكانت تشتمل على المدفع والهاون "مهراز"
والبندقية "مكحلة" والسيف والحربة.
وكانت الألبسة والأسلحة والذخائر كلها تضع في ورشات الدولة بتاكدمت، معسكر،
تازة، بوغار، مليانة..الخ، أو كانت تستورد من أوروبا عن طريق المغرب.
وكان موظفون سامون يدبرون هذه الورشات و كان المعلمون خاصة من الأجانب يدّ رسون
المهنة العسكرية للشباب المجندين وكانت هناك مكافآت مخصصة للذين يلمعون، كما
كانت تدفع معاشات للمصابين ولعائلات الذين قتلوا في المعارك، كما كان هناك وسام
لمكافآت الأعمال البطولية ويتشكل من صفيحة معدنية ينق 3أو 5أو 7ريشات
حسب أهميتها ولهذا كانت تسمى "ريشة،" كانت الشمسية الرمز المميز للسيادة، وهي
التمييز الوحيد الذي حظي به الأمير نفسه و كان يحملها فارس عندما يكون الأمير راكباً
 أو أحد من المشاة عندما يكون مترجلاً، وكان في الحالتين محاطاً بالحامية السوداء. وكان
العلم يحتوي على لونين الأخضر والأبيض وكان هذا اللون الأخير يشكل دائرة طرزت في
وسطها يد مفتوحة، وقد استوحي منه العلم الجزائري الحالي والفرق الوحيد يأتي في
استبدال اليد بهلال أحمر ما بين اللونين الأبيض والأخضر اللذين بقيا.
ولكي تثبت روح التضحية والانضباط في هذا الجي فقد كان قانونه العام يقرأ لكل
الوحدات مرتين وأحياناً ثلاث مرات في الشهر،كماكانت الشعارات التي يتضمنها تخاط
على أكمام الجنود والضباط على حد سواء نذكر من بينها: لا أنفع من التقوى
والشجاعة على الكتف اليمنى للآغا وعلى اليسرى: لا أضر من المخالفة وعدم
الانضباط


و كان الأمير عبد القادر نموذجاً ومثالاً للخصائل الأخلاقية الرفيعة والقتالية المحترفة فقد

أثار في نفوس جنوده وضباطه ومواطنيه صوراً رائعة للتفاي والإخلاص في خدمة القيم
والمبادئ والحرص على تحرير الوطن من المحتلين الغزاة، ويقر كل كتاب سيرته بما فيهم
الفرنسيون أنه كان نزيهاً، وأنه كان يملك أقصى درجات الشعور بمكانة وقيمة الأموال

العامة، وأنه لم يعرف سوى خدمة القضية التي كان يعلم أنها عادلة ضارباً بذلك أ سمى
مثال للتفاني والشجاعة الخارقة وكل ميزاته كانت مدونة في القانون العام لكي يتخذ منه
مثالاً يحتذى وعلى هذا المنوال فقد كان يذكر خصوصاً أنه لم يسحب أبداً من الأموال

للانفاق على شؤونه الخاصة وأنهكان دائما يرجع إلى الخزينة العامة كل الهداي التي كانت
تقدم له لأنهكان خادماً وفياً للدولة وليس لمصالحه الخاصة.

  

 إستراتيجية الأمير والدفاع عن الأقاليم :

اهتم الأمير عبد القادر بإنشاء خط دفاعي كبير بين التل والصحراء، وقد أقامه في وسط
العديد من الصعوبات لأنه كان مقيداً بالمدة الزمنية، ولم تكن هذه المناطق المحصنة

مخصصة للصمود أكبر وقت ممكن أمام الهجومات الفرنسية بل كانت بالخصوص لأجل
تَتين سلطته بالقبائل المنضمة إليه .
لقد شيد من الغرب إلى الشرق سبدو لحماية تلمسان، تاكدمت للدفاع عن معسكر تازة
للتحكم في منطقة الجزائر العاصمة وبوغار على الحد بين التنقل والصحراء وبسكرة في
جنوب قسنطينة، غير أنه قد ركز أكبر قدر من جهوده على تاكدمت لأنها كانت قريبة
من تيهرت العاصمة القديمة للرستميين، و كان يعلق على تاكدمت آمالاً عريضة كشف
عنها في حديث أجراه مع سجين فرنسي: مازال عندي الأمل في أن أعيد تاكدمت إلى
مجدها القديم هنا سأجمع القبائل، فنحن في مأمن من هجومات الفرنسيين ومن هذه
الصخرة المرتفعة سأنقض كما ينقض الصقر من على عشه فوق المسيحيين فأطردهم من
الجزائر ومن عنابة ووهران.

و كان الأمير قد عمل على أن يجعل من تاكدمت مر كزاً للثقافة وأن يبني لها جامعة، غير
أنه لم يسعفه الوقت لذلك، كانت تاكدمت تبعد عن حاميات العدو الذي لا يستطيع
بلوغها إلا بعد قطع التل والهضاب العليا، وهذا الموقع كان يعطي الأمير ميزة لمعرفة
تحركات العدو في وقتها وتدارك خطر أي هجوم.
زيدة على ذلك فإن موقعها بين التل والصحراء جعل من السهل على البدو أن
يقصدوها لشراء بضائع التل مقابل ماشيتهم وهو ما كان يسمح للأمير بمراقبتهم عن قرب
لأنهم يكِّ ونون مورداً مهماً للز كاة، وقوة لا يستهان بها في الحرب. وبفضل عزلتها فقد
كانت أحسن من أية مدينة أخرى لتشكيل المركز الضروري للصناعة الحربية وهنا كذلك
أنشأ بيت العملة الوطنية.

الإستراتيجية العسكرية:

أما عن الإستراتيجية العسكرية للأمير فهي تتلخص في كلمة واحدة وهي الحركية، فقد


تَميز في قدرته على استعمالها عملياً حتى خصومه وفي مقدمتهم "بيجو يشهد بعبقريته "

العسكرية، فقدكانت خططه العسكرية تتغير حسب الظروف، فكانت غالبا ثوراته على شكل
اشتباكات بكميات صغيرة، وفي بعض المرات كانت على صورة حرب مواقع غير أن
طبيعة النضال الذي كان يقوده الأمير فرضت عليه حرب العصابات التي كان يجيدها
إجادة خارقة للعادة، فكانت تفاجئ وتربك الخصم، وهي التي جعلت الأمير أشهر وألمع
رواد هذا النوع من الحرب.
وإذا كانت حرب العصابات تأتي دائماً بثمارها المتمثلة في تكبيد العدو خسائر ثقيلة،

فإن رد فعل هذا الأخير ضد القبيلة المشتبهة في تبليغها المعلومات يكون وحشيا ولا
يعرف الرحمة. ولهذا فإن الأمير لم يكن يستعملها إلا بأقصى قدر من الحيطة، وأكبر
الحظوظ في النجاح، وكانت معرفة الأمير الجيدة للميدان تَنحه هو وجيشه تفوقاً ملحوظاً
على القوات الفرنسية، فكانت تسمح له بفضل حركيته ومصالح استخباراته باستدراج
العدو إلى الأماكن الأكثر ملاءمة، وقد كان الجي الفرنسي على العكس من ذلك
يبحث عن حرب المواقع، ويرغم الأمير على الاشتباك في المعارك، فكان في هذه الحالة
يصاب بخسائر إلا أنه كان أيضاً يكبد العدو مثلها و كان دائماً يتمكن من التحرز في
ظروف حسنة .

وبالمقابل فإنه كان يحدث للأمير أحياناً عندما يرى الظروف مواتية أن يتسبب في نشوب
معارك كانت تنتهي بخسائر كبيرة في صفوف العدو.
وقد تحدث بعض الباحثين عن الفن العسكري لدى الأمير عبد القادر، منهم ضابط قديم
في الجي اللبناي وهو السيد أديب حرب وعنوانه "الحياة العسكرية للأمير عبد القادر" وهو موضوع أطروحته لنيل شهادة الدكتوراة من جامعة القديس يوسف ويوضح المؤلف
في كتابه العبقرية العسكرية للأمير على ضوء التقنيات العصرية التي كان الأمير قد طبق
بعضها، بل وأثراها حسب المؤلف الذي يرجع إلى المعارك الكبرى التي قادها الأمير
خلال كفاحه من أجل استقلال بلاده .
الِحكومة المركزية  :
كان الأمير يرى أن تنظيم الجبهة الداخلية وتوطيدها هما الأساس الأول الذي ينبغي أن
تقوم عليه حرب التحرير وكان هدفه قبول التفاوض والتساهل مع العدو وكسب الوقت
لاستكمال أسباب هذا التنظيم وكان الأمير دائم الحرص على إبعاد الطابع الفردي عن
سلطته بإشراك ممثلين عن العلماء والأشراف ورؤساء القبائل يقل عددهم أو يكثر حسب
أهمية المسائل أو القرارات وكان الأمير يدرك مدى عمق الروح الاستقلالية لدى القبائل
وزعماء الطرق الصوفية ومدى تأثير ذلك على عملية التوحيد مما يجعلها أكثر صعوبة،
كما كان يدرك مدى كره هؤلاء للغزاة وبربطه بين التوحيد والمقاومة وكان يأمل أن


يساعده كره الأجنبي على تذليل صعوبات التوحيد ولكن الأمر لم ، يكن سهلاوقد
حرص الأمير على أن تكون حكومته من ذوي الخبرات الذين اشتهروا بالكفاءة والقدرة

والخبرة والعلم والفضل والتقوى، وكان الأمير يطلب منهم القسم على التقيد بالعدل
وخدمة الوطن والإخلاص، وكان هناك منادي في الأسواق يطلب من كل من له حاجة
أو شكوى على خليفة أو قائد أو زعيم فليرفعها إلى ديوان الأمير من غير واسطة وكان

الأمير ينصف الجميع، ومن لا يرفع ظلامته إليه فلا يلوم ّ ن إلانفسه .
وقد أسس الأمير الديوان الذي كان مقره في معسكر أو المدية أو ينقل إبان الظروف
العدوانية إلى تلك الأماكن التي يرتئي أنها الأكثر ملاءمة لظروف الحرب، و كان مطبوعاً

بمركزية شديدة في القرار بالرغم من اللامركزية الإدارية الواسعة وكان على رأس الحكومة

وزير أول بمساعدة ثلاث كتاب، كاتبان للدولة إحداهما للحبوس نصب عليها الحاج
طاهر أبو زيد، والأخرى للشؤون الخارجية، عهد بمهامها إلى الرجل المشهور ميلود بن
عراش وكانت هناك خزينتان احداهما عامة والأخرى خاصة، وأخيراً مجلس استشاري أو
مجلس الشورى يتكون من أحد عشر عضواً ويترأسه قاضي القضاة الذي كان على علم
بكل شؤون الدولة.
لقد شرع الأمير عبد القادر في تكوين جي وطني وفي إنشاء المؤسسات، وفي وضع
قوانين جديدة مستمدة من الشريعة الإسلامية وصك عملة باسمه واستطاع تأسيس دولة
ذات طابع جزائري خاص على قاعدة شعبية وحدد الأهداف التي يرمي إلى تحقيقها من
خلال تنظيم المقاومة الجزائرية والتي من أهمها:
نشر الأمن وتأديب الخونة العصاة.
توحيد القبائل حول مبدأ الجهاد.
مقاومة الفرنسيين بكل الوسائل.
دفع الفرنسيين إلى الاعتراف بالجزائركدولة وبعبد القادر أميراً للبلاد.

 
3تقسيم الباد إلى ثماني ولايات:

قام التنظيم الإداري لدولة عبد القادر على أسس فدرالية يتمثل في وجود 8مقاطعات
إدارية يرأس كل مقاطعة خليفة للأمير، ويتواجد هؤلاء الخلفاء في:
تلمسان، محمد البو حميدي الولهاصي.
معسكر، محمد بن فريحة المهاجي، ثم مصطفى بن أحمد التهامي.
مليانة، محيي الدين بن علال القليعي ثم محمد بن علال.
  
التيطري، مصطفى بن محيي الدين ثم محمد البركاي .
مجانة، محمد بن عبد السلام المقراي ، ثم محمد الخروبي.
بسكرة، فرحات بن سعيد ثم الحسين بن عزوز.
برج حمزة، أحمد بن سالم الدبنيسي.
المنطقة الغربية من الصحراء، قدور بن عبد الباقي.
وبعد استيلائه على إقليم التيطري والسيطرة عليه وسط الترحيب العام قسمه إلى أربع
مناطق أتبعها بمدينة المدية، وولى عليها أخاه السيد الشريف مصطفى بن محي الدين، ثم
أنشأ ديوان الإنشاء والتعمير وولى عليه السيد الحاج مصطفى بن أحمد التهامي وقسم

الولايت إلى دوائر، ووضع على كل دائرة رئيساً، وهذه الدوائر عبارة عن قبائل تتشكل
كل منها من بطون وعشائر، فجعل لكل قبيلة قائداً وعلى كل بطن أو عشيرة شيخاً
يرأسها فكانت الأوامر تصدر إلى كل هذه المراتب عن طريق التسلسل وكان المشايخ
يرفعون القضاي المهمة إلى القيادة العليا، وهذه بدورها ترفعها تسلسلاً حتى تصل إلى
ديوان الأمير .
ونجح الأمير في ربط البلاد بإدارة شرعية تتمتع بالكفاءة والنزاهة والاستقامة فأبعد أكثر
الرؤساء الذين اشتهروا بالبط إبان الحكم العثماي واختار معاونية من ذوي الأخلاق
الحميدة، وأخذ يعتمد على كل من يتمتع بالعلم والشرف والفضيلة ولم يوّ ل أحداً محاباة
ولا سلمهم زمام الأمور إلا بعد أداء القسم المقدس.

و كان يتم تعيين العاملين في الدولة وفق مراسيم خاصة ُ تحرر بقلم كاتب الديوان الخاص،
ويوضع عليها خاتم الدولة وهو خاتم كبير نق عليه في الوسط هذا البيت
من تكن برسول الله نصرته
إن تلقه الأسد في أكامها نجُم
ونق على الجوانب: الله، محمد، أبو بكر، عمر، عثمان، علي، وفي دائرة صغيرة داخل
الخاتم نق "ناصر الدين عبد القادر بن محي الدين" والتاريخ الهجري 1248ه لم يعتمد

الأمير على تقاليد في الحكم نقلاً عّ من سبقه، بل أقام حكومة ذات طابع جزائري جديد
وتَكن من وضع تنظيمات إدارية وقضائية وعسكرية واقتصادية لدولته الفتية، وعلى الرغم
من أن القبائل التي تتكون منها دولته كانت تتنافس فيما بينها إلا أنه كون منها ما يشبه
"فيدرالية ذات ثماي ولايت" يحكمها قانون موحد وتخضع لنظام واحد ولسيادة واحدة
وقد وضع نظاماً عملياً يتلاءم مع حقائق القرن التاسع عشر وظروفه التي تقضي بإيجاد
دولة حديثة وأهم المبادئ التي تسلحت بها دولة الأمير العدل والمساواة وحقوق الإنسان
واحترام الكرامة الإنسانية وسيادة القانون، واحترام النظام وحب الجهاد وكراهية المستعمر
وقد استمدت مفاهيم هذه القيم من الإسلام.
واهتم الأمير بمفهوم دولة المواطنة وتسلحت دولته بمبدأ المساواة حتى بينه وبين مواطنيه أو
بين المواطنين والحكام، وكان للقضاة وحدهم حق إصدار الأحكام، والسكان جميعاً لهم
الحق في التقاضي وطبقت المساواة حتى بين أفراد القبيلة ورئيسها ونجح الأمير في جعل
الشعب يتجاوز الشعور بالوحدة القبلية إلى الشعور بالوحدة الوطنية.
لقد استطاع الأمير عبد القادر أن يثير الجزائريين بخطابه الوطني الذي ترددت فيه
عبارات: بلادكم، أرضكم، دينكم، نساؤكم، وحذر من هذا العدو الفرنسي الذي يريد
أن يغل الأعناق وأن يعتدي على الشرف وتوجه إلى كل القبائل وكل الزواي وكل الجهات
وتجاوز خطابه بني فلان وبني فلان إلى الشعب إلى المواطنين حيثما كانوا ومهما كان
انتماؤهم القبلي أو الصوفي أو الجهوي وربما لم تعرف الجزائر قائداً من أبنائها استعمل هذا
الخطاب من قبل، فقد كان تحرك الأمير عبد القادر كرجل دولة وطنية لا كرجل طريقة أو

قبيلة أو جهة، لقد بذل جهوداً عظيمة في جمعكلمة الجزائريين لمواجهة العدو المشترك من
خلال ادارة منظمة وحكومة رشيدة، وجي مجهز وتعبئة عامة لكل مواطنيه وكان يهتم
بالمواطن المعطي الفاعل في بناء الدولة والتصدي للغزاة وكان يقول لا تسألوا عن أصل
الرجل بل اسألوا عن حياته وأعماله وشجاعته ومؤهلاته وستعرفون من هو، فإذا كانت
مياه النهر طاهرة مقبولة فلأنها جاءت من نبع صاف.
لقد امتدت سلطة الأمير عبد القادر منذ 1838م لتشمل الأغلبية العظمى من البلاد،

وإذا كان الفرنسيون مازالوا يحتلون جزءاً من التراب الوطني، فإن العمل الذي أنجزه الأمير

في بضع سنين قد كان عظيماً ويبدو و شيكاً على بلوغ غايته، لم يصبح الأمير السيد بلا
منازع ولا شريك على الجزء الأكبر والأوفر ثروة وسكناً في البلاد فحسب، لكن القبائل

التي كانت مشتتة متنافرة سابقاً قد أصبحت الآن موحدة تحت ظل لواء واحد، و سلطة
قوية ومركزية لم يسبق لها مثيل تضمن أمن الأشخاص والممتلكات في كل مكان، بفضل
قضاء فعال ومنصف بالنسبة للجميع وفي وجود جي عصري يضمن حماية التراب
ومستعد لمواجهة كافة الاحتمالات وقد توجت كل الجهود الرامية إلى عصرنة البلاد
وتوحيد الشعب الذي خرج من الفوضى التي تركته فيها القرون العقود الماضية وكللت
بنجاح بفضل عبقرية الأمير، وتفانيه في خدمة المصلحة العامة، هو ومن معه من الرجال
الذين أحسن اختيارهم صحيح أن العمل لم يكن قد اكتمل لكن قوامه وأساسه كان قد
أنجز ،  وقد كانت تلك الجهود المباركة نواة قوية للدولة الجزائرية الحديثة.

معايير تعيين موظفي الدولة ومناصبهم :

كان يتم اختيار موظفي الدولة من أبناء الشعب الجزائري وزعماء القبائل، والأعيان،

والعلماء، وأصحاب المكانة المرموقة من ذوي الكفاءات والقدرات والملكات الإدارية

والقيادية، كان كل موظف في الدولة ابتداءً من أسمى موظف وهو الخليفة إلى أبسط



الشيوخ، يملك في نطاقه كامل السلطة الإدارية والعسكرية والمالية على قمة السلم كان
الخليفة بتفويض من الأمير الذي كان يمثله ويملك السلطة المطلقة في ولايته التي يقود
جيشها في وقت الحرب ويتحكم في آغاتها وقيادتها وشيوخها، وكان يحكم في القضاي
التي تتعلق بالدولة وقضاي الاستئناف ضد أحكام وقرارات الآغات، وقد كانت تتجمع
عنده الضرائب التي يرفعها الآغات والقيادة والشيوخ ومدة خدمته غير محددة لأنه كان
يختار لكفاءته وإخلاصه وقد تبين أنهم جميعاً أهل لثقة الأمير، فلم يخن أي منهم هذه
الثقة على الرغم من محاولات العدو رشوتهم.
من الجهة الأخرى نجد أن انتداب الآغا كان قابلاً للفسخ، لكنه قابل للتجديد، وتدوم
مدته النظرية سنتين، و كان الآغا مسؤولاً عن الأمن في نطاق اختصاصه كما كان يجند
المحاربين، ويرفع محصلة الضرائب التي كان يجمعها القادة والشيوخ في منطقته وكان هو
القاضي في المسائل الخارجة عن نطاق الشريعة بشرط الامتثال للاستئناف في قراراته أمام
الخليفة، وأخيراً فقد كان يراقب قرار القيادة في حدود مسؤوليته، كانت مدة انتداب
القائد تقدر سنة مع قابليتها هي الأخرى للتجديد وقد كان يمارس مهامه في نطاق
قبيلته، وعلاوة على دوره كمقسط للضريبة المقدرة على منطقته الذي يساعده على القيام
به الشيوخ، فقد كان القائد يمارس سلطة دركية وفي زمن الحرب كان يقود كتيبة تشكل
بالخصوص من الجنود غير النظاميين.

أخيراً في القادة يوجد الشيخ وهو على العكس من رؤسائه يجب أن يكون منحدراً من
نفس القبيلة ومن نفس الجزء المنوط به قيادته، وهو يستمد سلطته من ثقة مواطنيه فيه،
ومن هنا تأتي أهميته الاجتماعية بالرغم من تواضع مهمته.
ويجمع هو الآخر في نطاقه الخاص وظائف الشرطة ومحصل الضرائب وضابط الحالة


المدينة، غير أنه كان مسؤولاً بوجه خاص على الأمن العام في قبيلته وهي مهمة صعبة
ومرهقة لأنه لم يكن يملك الحق في إصدار العقوبات على الجانحين فهذا امتياز خاص
بالآغا .
كان الأمير يختار القيادة من الأشياخ الأكثر أهلية واستحقاقاً ولأجل تفادي الرشوة كان
الموظفون يعينون من الطبقة الميسورة بالإضافة إلى معاشاتهم فإنهم كانوا يتقاضون حصة
من الضرائب والمخالفات "الخطاي" التي كانوا يجبونها.


السلطة القضائية :

كانت السلطة القضائية في دولة الأمير عبد القادر منفصلة عن السلطة التنفيذية
وقد كان من يمارسها منفذاً للقانون وليس ممثلاً للأمير مع أن هذا الأخير هو الذي يعينه
كانت صلاحيته واسعة: نظام الأحوال الشخصية والميراثية، والشؤون العقارية، و
يصادق على العقود المحررة من طرف الكاتب الشرعي أو الموثق الذي كان يزاول وظائفه
في مقر القضاء، كما كانت صلاحية القاضي تَتد حتى إلى القضاي الجنائية .
كان القاضي بطبيعة منصبه شخصية مهمة وكان يتم اختياره لثقافته وخصاله الفاضلة
و كان يُعّين إما من بين العلماء المشهورين، أو عند تعذر ذلك فبامتحان ولم تكن تخرج
عن دائرة اختصاصه إلا القضايا المتعلقة بالأمن العام التي كانت من اختصاص الخليفة أو
الآغا، و كان القاضي كغيره من الموظفين يقبض راتباً محترماً و كان فوق ذلك يتبع الأرتال
في تحر كاتها وهو مرفوق باثنين من المعاونين أحدهما مكلفاً بتنفيذ الحكم.
وكان الأمير: لا يسمح إلا بالأحكام المطابقة لشريعة الله التي ما كان يعتبر نفسه إلا
لها
منفذاً .
فالمرجعية الدستورية العليا في دولة الأمير عبد القادر: القرآن الكريم والسنة النبوية
والاسترشاد باجتهاد العلماء والفقهاء المجتهدين، وللمذهب المالكي مكانة متميزة في دول
الشمال الأفريقي وإن كانت أمور الدول لا تعتمد عليه فقط، وإنما تحتاج إلى الانفتاح

على المذاهب السنية الأخرى واجتهادات فقهاء كل عصر الذين فهموا النصوص وأدركوا
حكمتها وغايتها ولديهم من الملكات الفقهية والتربية الإيمانية الربانية التي تجعلهم يتحرون
المصلحة العامة في المواضيع الطارئة التي لا يوجد فيها ن ّ ص ملزم صريح مع قدرة فائقة في
حساب تطور الأزمان.
ومن أشهر قضاة دولة الأمير عبد القادر: العّ لامة قاضي القضاة أحمد بن الهاشمي
المراحي، والسيد عبد بن المصطفى المشرفي.
و كان الأمير عبد القادر حازماً فيالمحرمات كمنع شرب الخمر ولعب الميسر وبصورة خاصة بين
صفوف المقاتلين، كما حظر التدخين لكونه إسرافاً، ونهى الرجال عن إستعمال الذهب
والفضة إلا في الأسلحة .
كان عبد القادر حريصاً على رفع الظلم وإقامة العدل وتقوية المؤسسة القضائية وكذلك يرى أنها
من أسباب قوة الشعب وصلابة الدول وعوامل النصر على الغزاة الفرنسيين، لقد
واجه الاستعمار الفرنسي زعيم فذ، وشعب يتكون ودولة تبنى على أسس راسخة
بزعامته .
مجلس الشورى :
اتخذ الأمير في كل مقاطعة داراً للشورى لبحث الأمور الهامة في الدولة وجعل انتخاب
أعضاء هذه المجالس "مجالس الشورى" من قبل النّواب الذين كانوا يُدعون بالخلفاء وربط
هذه المجالس بالمجلس الأعلى للبلاد المؤلف من أحد عشر عالماً وبمجالس الإستئناف،
وأما العلماء الأحد عشر فمنهم السادة: أحمد المحفوظي، أحمد بن طاهر بن الشيخ
المشرفي، ومحمد بن مختار الورغي، ومختار بن مكي الحاج، عبد القادر بن روكس، وإبراهيم
ابن القاضي، وأحمد ابن الهاشمي، وأما نفقات هذه المجالس فكانت تصرف من بيت المال
كباقي كوادر الدولة وأما أصحاب الوظائف الدينية وما يتعلق بها فكانت رواتبهم
تصرف من خزينة وزارة الأوقاف.
كان مجلس الشورى الأعلى في الدولة الفتية ينعقد والأمير في وسطه، وكان يتفحص
الطعون في قرارات القضاة، ويشكل هذا المجلس علماء أجلاء كانوا يتمادون في التدقيق
عندما تعارضهم مشاكل عويصة إلى أن يطلبوا باسم الأمير رأي العلماء المعروفين
بتعمقهم في علوم الشريعة، في الغالب كانوا يستشيرون علماء جامعة القرويين بفاس،
كذلك كان يستشار علماء الأزهر في بعض الأحيان، غير أنه نظراً لبعد المسافة فإن
الأمير لم يكن يلجأ إليهم إلا في الحالات الإستثنائية.
والأمير لم يكن أبداً يتخذ القرار ببساطة، وكان دوما يستشير المجلس الذي يترأسه في
أغلب اجتماعاته والذي كان في معظم الحالات يعكس صدى الرأي العام.

الاقتصاد والمالية العامة :


لقد أنشأ الأمير عبد القادر الجزائري  

نظاما اقتصاديً تشرف عليه الدولة الهدف منه جعل اقتصاد البلاد في
خدمة الغايت القتالية بصورة خاصة، مصلحة الفقراء والشعب بصورة عامة، فكان

الجباة يخرجون مرتين في السنة بجباية الزكاة والأعشار بعد أن يقسموا على القرآن الكريم

بألا يظلموا أحداً وألا يعتدوا على أحد، وأنشأ ديوان الأوقاف وأو كل أمره إلى أبي الحاج
عبد الله الجيلاي بن فريحة وأوكل أمور ديوان الأوقاف إلى السيد عبد الرحمن الحاج طاهر
أبي زيد كما أنشأ ديوان صناعة العملة ومعاملة الأسلحة وكل ما يتعلق بأدوات الحرب
وأوكل أموره إلى السيد أبي البركات محمد الجيلاي ، وأسند الأمور الداخلية إلى أبي محمد

السيد الجيلاي بن الهادية، أما كتّاب الديوان فكانوا من السادة الأشراف، السيد أحمد
بن أبي طالب والسيد مصطفى التهامي. وكان حاجبا الخزينة هما: السيدين محمد بن
االحاج علي الريحاوي والحاج النجادي الريحاوي، وكان السيد محيي الدين بن عبد الله ناظر
الإسطبلات.
كانت إيرادات الدولة الفتية تستعمل في نفقات الإدارة والجي على الأغلب ويجدر
التوضيح هاهنا بأن كل الرواتب والمعاشات كانت تدفع نقداً وعيناً بالسلع الغذائية على
وجه الخصوص وأنها كانت تتم بانتظام.
لقد بقيت عملة الأمير متداولة حتى بعد استسلامه واستمرت كذلك إلى أن أخذت
السلطة الاحتلالية سنة 1849م إجراءات خاصة ليسحبها من التداول.
وكانت الخزينة العامة قيمة معتبرة بالنسبة لذلك العصر وكانت بالعملة الصعبة، وقطع
الذهب بما يعادل أربعة ملايين من الفرنكات الحالية وهي نتاج الصادرات إلى إسبانيا
وفرنسا من الحبوب والماشية والأصواف الآتية من الضرائب، وكذلك كان
يوجد لحاجيات الحرب كميات ضخمة من البارود والكبريت وملح البارود والمعادن
وكانت الحبوب مخزنة في مطامير موزعة على كامل إقليم الدولة.

 

التجارة


كانت التجارة مزدهرة بفضل الأمن الذي كان مستتباً تَاماً في كل الأقاليم الواقعة تحت

سلطة الأميرعبد القارد الجائري و كان الأمير صارماً فيما يخص قضية أمن الطرق والأسواق و كانت العقوبات
قاسية بالنسبة لمن كانوا يعترضون القوافل المحملة بالبضائع ،3و كان سلطان فاس معجباً
بجهود الأميرعبد القادر ونجاعتها، وذلك أن القوافل القادمة من المغرب كانت تهاجم خلال الفترة
ا
التي قبل مجيء الأمير عبد القادر للسلطة وبيعته مما كان يجعل المبادلات التجارية بين
البلدين نادرة للغاية.
و كان الأمير يعين محتساباً وهو ما يشبه المفتشين وكان في نفس الوقت يعمل على
التحكم في أسعار ونوعية البضائع في الأسواق ويراقب الأخلاق التي كانت سليمة
ومحترمة، ومنذ اتفاقية دي ميشال أصبح الفرنسيون الذين كانوا يحتلون الموانئ لا يستلمون
أية بضاعة أساسية من دولة الأمير، من حبوب وماشية وأصواف إلا بترخيص منه. كان

الإقليم الخاضع للأمير أكثر أمناًكماكان النظام به أكثر ا ستتباباً، مما هو عليه في مناطق

 

النفوذ الفرنسية وفي المغرب، و كانت الشرطة الفّ عالة لدولة الأمير تهتم بالأخلاق الحميدة
وتحارب الذميمة، وتحارب الكحول والتدخين والمقامرة ... الخ.

  الدبلوماسية:

إن المعاهدة الأولى المسماة "دي ميشال" الموقعة بين الحكومة الفرنسية والأمير تختص


بشروط التعيين المتبادل للممثلين، مع أنه قدكان هناك جدل بين الفرنسيين والأمير حول
عبارة ممثل بالنسبة للطرف الأول وقنصل بالنسبة للثاي .

مهما كانت العبارة، فإن الأمر كان يتعلق بدبلوماسيين معتمدين عند كً لا من الطرفين،
ذلك أنه قد اعترف ضمنياً في هذا الاتفاق، ولو على جزء من الإقليم بالسيادة الزمنية
والروحية لعبد القادر "أمير المؤمنين" كان الأمير بفضل اختيار هؤلاء الوكلاء الدبلوماسيين
من بين اليهود، الذين كانوا يعتبرون أنفسهم من رعايه مثلهم مثل غيرهم من الجزائريين،
وذلك لمهارتهم الدبلوماسية وكذلك لمعرفتهم لكلتا اللغتين، وككل الدبلوماسيين فقد كان
هناك ثلاثة مهمتهم تتمثل في السهر على التطبيق الدقيق للمعاهدة وتبادل أصحاب
الجنح والجنايت والفارين من الجي ، وتطبيق الأحكام الصادرة في كلتا المنطقتين.



كانت فرنسا في هذه الفترة تحتل مدن الجزائر وهران، أرزيو، ومستغانم، وكان قناصلة
الأمير حسب بن أشنهو هم على التوالي مادوخاي "مردوش" وبن دوران والحاج حبيب،
ومحمد بن يخو وخالفه بن حمود.
وقد كان هناك أوروبيون يمثلون الأمير في الجزائر مثل كارافيني غير أنه قد اعتبر من قبل

فرنسا شخصية غير مرغوب فيها وذلك تَهيداً لأزمة  1839م وهذا ما زاد في حدة
التوتر بين فرنسا والأمير وهو ما أدى إلى استئناف الأعمال العدوانية، على الرغم من
الروابط الوثيقة التي كانت تجمع الأمير بسلطان فاس، فإنه لم يكن بين الدولتين علاقات
دبلوماسية بالمعنى المعروف وإنما تبادل للوفود في فاس، ومكلف واحد بالأعمال هو الحاج

بن جلون في فرنسا كان غالباً مبعوث الأمير إلى باريس هو ميلود بن عراش الذي يمكن
اعتباره آنذاك كسفير معتمد لدى الحكومة الفرنسية .
 

وأخيراً، فإذا كانت هناك علاقات تجارية لهذه الدولة الفتية مع إسبانيا وخصوصاً مع

إنجلترا، هذه الأخيرة التي كانت تحابي الأمير، وكانت في نفس الوقت تعمل على التقرب
من فرنسا، فإنه لم يوجد أي تَثيل بين هذه البلدان والأمير، وعلى العكس من ذلك فإن
الأمير كان منذ توليه وحتى الشهور الأخيرة من كفاحه على علم تام بما كان يجري ليس
في فرنسا فقط، وإنما كذلك في الدول الأوروبية الأخرى.

المخابرات


لقد كان له مصلحة أخبار حقيقية ويرجع الفضل في ذلك إلى مبعوثيه الذين كانوا مر كزاً
كبيراً للمبادلات، وكانت له بمثابة قاعدة للإمداد ليس لتوريد الأسلحة والذخيرة فقط،

بل وكذلك لنشر وجمع الأخبار وكان يتابع ما يصدر من جرائد أوروبية ويكلف من يقوم
بترجمتها، وحسب ميلود بن عراش سفيره فوق العادة في باريس، فإن الأمير كان له ابتداء
من 1838م عميل يتجسس لصالحه، وهو جنرال فرنسي متقاعد يقيم في باريس حيث
كان يتمتع بنفوذ كبير وكان يخبره بكل ما قد يهمه ،وكان هذا الجهاد المرتبط بالأمير
يتابع تحركات الفرنسيين وعملاءهم داخل القطر الجزائري بحرفية عالية.

الثقافة

قبل الاحتلال الفرنسي كان التعليم ينشر عن طريق الزواي وكان كل من العلماء والفقهاء
ومثلهم الطلبة أو المدرسون هؤلاء وأولئك يجودون بعلومهم ومعارفهم كل منهم في القبيلة


الخاصة به وقد كان تعليم المواطنين من بين انشغالات الأمير منذ توليته، وهذا ليس
بغريب من قبل زعيم يعترف بقيمة العلم والمعرفة والثقافة.
وهكذا فقد كانت جهوده التوحيدية تتماشى بالتوازي مع إقامة نظام تربوي عام، وقد
أقيمت في الأريف مثلها مثل المدن المدارس، حيث لم يكن التلاميذ يدرسون القرآن

فقط، وإنما القراءة والكتابة والحساب و كان هذا التعليم مجانياً، مثلما كان التعليم ذو
المستوى الأعلى الملقن في الزواي والمساجد، هاهو ذا ما كتبه الأمير حول هذا الموضوع
"كان أولئك الذين يبتغون قدراً أكبر من التقدم في دراستهم يرسلون مجاناً إلى الزواي
والجوامع فكانوا يجدون فيها طلبة قادرين على تكوينهم في التاريخ وعلوم الدين، كنت
أخصص للطلبة راتباً منتظماًكانت قيمته تتفاوت حسب علمهم وجدارتهم، و كانت أهمية
تشجيع التعليم تبدو لي من الضرورة بمكان، بحيث أنني أكثر من مرة عفيت عن حكم

الإعدام على مجرم لسبب وحيد هو كونه طالبا ".
كان الأمير يحرص بنفسه على صيانة الكتب والمحفوظات، وكان يعطي القبائل أوامر
دقيقة من أجل صيانة الكتب، ويأمر بعقوبة صارمة في حق كل من يمسك متلبساً
بإتلافها أو تَزيقها، هكذا فقد أنشئت مكتبة كبيرة لتجميع المؤلفات والمخطوطات ذات

القيمة، كان الكثير منها يؤخذ إثر المعارك أو يشترى أو يسلم من قبل الجنود الذين كانوا
يجزون على ذلك.
لقد أتلفت هذه المكتبة ذات الأهمية البالغة من قبل القوات الفرنسية عند سقوط الزمالة
في 1843م وقد كان لهذا تأثير بالغ في نفس الأمير.

 

الصناعة 

 
لم يكن بحث الأمير وتخزينه للمعادن الخالصة ضروريً فقط لصنع عملته، بل كذلك من
أجل تكوين صناعة قادرة على جعله مستقلاً عن الخارج، وقد استطاع في سنة 1839م
أن يجمع بين ألفي قنطار من الحديد ومئتين من النحاس وقد تَخضت أبحاثه عن
اكتشاف منجم للكبريت قام مباشرة باستغلاله، ومنجم آخر للرصاص، وقد جعل من
مدنه قواعد صناعية بإنشاء مصانع ومخازن للبارود في معسكر مليانة، المدية، وتاكدمت،
ومعامل للسلاح في مليانة بفضل استخراج الحديد الخام من جبل زكار المطل على
المدينة، كما أنه قد أنشأ مسابك المدافع في تلمسان، ولم تكن هذه المراكز مخصصة لصنع
الأسلحة فقط، كذلك كانت تصنع الملابس للعسكريين والمدنيين على حد سواء.
كان الأمير دائم الانشغال بعدم الارتباط والتبعية للخارج، ونظراً لمحدودية إمكانياته
وموارده فقد كان يعوضها بالشراء من المغرب عن طريق المكلف بأعماله في فاس، ومن
وهران ومن مدينة الجزائر لكميات كبيرة من الحديد والصلب وصفائح الفولاذ والأقمشة
والجوخ المخصصة بالدرجة الأولى لتجهيز جيشه، لقد كانت جبارة تلك الجهود التي قام
بها الأمير بغية تعزيز البلاد بصناعة تَكنه على قدر المستطاع من تجهيز بلاده حتى يتحرر
من التبعية للخارج.

يكتب الكونت دي سيفري في كتابه: «عبد القادر ومساجين الحرب»: كانت المشاغل
والمخازن والمعامل والصناعات الحربية والسلمية والحصون والأسواق والمدن كلها تنبعث
وكأنها نتاج أعمال سحرية.
غير أنه كان يلزمه التقنيون كذلك: وقد وجد تقنيين لصناعة النقد خاصة من الفرنسيين
الذين كانوا في مجملهم من الفارين المعتنقين الإسلام.
و كان حريصاً على الاستفادة من فرنسا في جانب التقنية من خلال إرسال مواطنين إليها
ولكن محاولاته باءت بالفشل من جراء التردد والتحفظ التي ظهر من جانب فرنسا.
وكان يحرص على الاستفادة من الخبراء وأهل التخصص في ميادين الصناعة وعلم المعادن

واستفاد من خبير فرنسي كان مهتماً بالأبحاث المنجمية بعث به سلطان المغرب إليه
ليقدم خدماته للأمير، وفعلاً بدأ التنقيب في جبل ز كار واكتشف أن خام الحديد متوافر
بكثرة وقد استوردت من إسبانيا عجلة مائية ومسقط مياه يستعمل كقوة دافعة وذلك
لاستخدامها في إنشاء مصنع ذي فرن عال، ولإعطاء المشروع كامل أهميته كان الأمير
يصر على معاينته بموكب من القادة السياسيين والعسكريين وقد حضر الأمير كل مراحل
العملية بكل اهتمام وقلق، وعندما ُ ص ب قضيب الحديد قام الأمير أمام الملأ بتقبيل
المهندس، وعندما برد الحديد أخذه الأمير بين يديه وتفحص كل أوجهه ثم عرضه على
كل مرافقيه وأنصاره.
لقد كان الأمير يهتم بالتطور والرقي وبالرغم من أن الأمير كان ابن بيئة محافظة وأسرة
متصوفة ومنطقة ريفية منعزلة، إلا أنهكان قريباً من مدينة معسكر التيكانت مقراً لسلطة
باي الغرب، ثم إنه قضى بعض الوقت في التعليم بوهران التي كانت قبل فتحها 1792م
مدينة ذات طابع إسباي . وكان الأمير عميق التمسك بالدين وتعاليمه وبنصوص القرآن

والسنة ومتمكناً من التراث العربي والحضارة الإسلامية: يحفظ الشعر والأمثال والخطب
والحكم، ويعرف حياة الفلاسفة والريضيين والأطباء ومع ذلك وجد نفسه بحكم ظروف
بلاده على قمة هرم السلطة، فكان عليه أن يوائم بين التقليد والتجديد بين التراث التليد
والحضارة الغربية الغازية.
وقد استجاب الأمير لضغط هذه الحضارة في عدة مجالات دون التضحية بمقدساته،

فأدخل نظماً ومصانع وأجهزة لا عهد لقومه بها، وقد عرفنا ذلك عنه، وفي بعض
مراسلاته مع الفرنسيين سيما مع ملك فرنسا لويس فيليب، وردت عبارات تدل على أنه
كان ينتظر أن يتعاون مع الفرنسيين على إدخال المفيد من الحضارة الأوروبية على
شعبه.
لقد كان الهدف الأسمى والأشمل لعبد القادر هو جعل عرب وأمازيغ الجزائر شعباً واحداً
ودعوتهم للمحافظة التامة على دينهم، وبعث روح الوطنية فيهم، وإيقاظ كل قدراتهم
الهامدة سواء للحرب أو للتجارة أو للزراعة أو للأخلاق والتعليم.
كان الأمير ينشد توحيد الشعب وتوعيته وإلحاقه بركب العالم المتقدم وبناء دولة تجمع بين
الإسلام وحاجات العصر.
كل المؤرخين الفرنسيين يذكرون رسالته المؤثرة التي بعث بها إلى الملكة أميلي في هذا
المضمار: عوض أن تبعثي إلي بجبنائك الأمجاد كي يقاتلوي ، فليأتوا ليساعدوي على أن
أضع في بلادي أسس حضارة تكونين قد أسهمت فيها، فتكونين قد حققت هدفين

اثنين تنزلين السكينة على قلبك النابض بالأمومة وتسعدين كلا من رعايك ورعاينا،
وعسى الله أن يحفظ لك كل ما هو عليك عزيز وغال.
لم يكن هناك رد عملي وفعلي فروح الغزو والسيطرة التي كانت المحرك الدائم لفرنسا،
تكن تطيق أن ترى أمة إسلامية عصرية على وجه الأرض.

إنشاء المشافي

اجتهد الأمير عبد القادر في تطوير دولته وأحدث أموراًكثيرة، ومن أهمها إنشاء المشافي
العامة والخاصة، فكان في كل مقاطعة عدة مستوصفات ومشا ف خاصة بالمقاتلين


تصحبهم في كل موقعة ومعر كة، وعّين لكل مشفى أربعة أطباء أكفاء يرأسهم طبيب

مشهور ومن مشاهير الأطباء في دولة الأمير: الحكيم أبو عبد الله الزراوالي، و كان علما
بخصوص الأعشاب على اختلاف أنواعها، ومن اختصاصاته إخراج الرصاصة من العضو
المصاب بوضع نوع من الأعشاب على الجرح فتخرج الرصاصة من دون الحاجة إلى
جراحة بعد وقت قصير وبسهولة ومن دون ألم. وكان إنشاء هذه المستشفيات أحد أهم
المنجزات التي كان له فيها فضل كبير.
واستعان الأمير بالعلماء وفقهاء الإسلام في الجزائر والمغرب لكي يكون على ثقة عن عدم
تجاوز دولته أحكام الشرع في قراراتها ودفعته الظروف الجديدة إلى طلب التطوع من
السكان لخدمة مزارع الدولة وأملاكها التابعة لبيت المال بشكل نظام تعاوي عرف
"بالتدويرة".

را بعا: معاركه ومعاهداته

إخضاع القبائل
كان أول عمل قام به الأمير حملات إخضاع القبائل التي رفضت البيعة، فخرج مباشرة

بعد البيعة وقام بحملة واسعة بين القبائل العربية والبربرية، فأخضع القبائل التي لم تعترف
بالبيعة وفرض عليها أن تعترف بقرار الجماعة وعفا عّ من يستحق العفو، وعاقب من

يستحق العقاب، وعاد سالكاً طريق الساحل حتى وصل إلى مرفأ أرزيو وكان قاضيها
أحمد بن طاهر قد دخل في محادثات مع حاكم وهران الفرنسي وطلب منه احتلال المرفأ،

فقبض عليه الأمير وساقه إلى معسكر حيث أمر باعتقاله، بعد أن عين من يسير أمور
الميناء .
وبعد عودته من أرزيو قرر تأديب القبائل التي تنشر الفوضى بين المواطنين وكانت تقوم
بالسلب والنهب ،1وكانت قبيلته فليتة تشتمل على بطون وعشائر، وكان من عادتها
السلب والنهب وقطع الطرق والتعرض للسابلة وبقي هذا شأنها منذ عهود موغلة في
القدم، فكم رّ وعت من قبائل مجاورة لها و َ سطَ ت على أموالها، وعندما بويع الأمير طلب
الشعب منه وضع حد لعدوان هذه القبيلة فاستجاب له وتوجه بالجي وحط بالبطحاء
في منطقة تعرف باسم "بهيرة" ومنها أرسل إلى قبيلة فليتة وما جاورها من القبائل      رُسلاً
يطلب إليهم الالتزام بالشرعية ويبلغهم قرار الشعب الجزائري الذي أصبح بموجبه أميراً
للبلاد، فكان جوابهم العصيان ورفض الطاعة، فأسرع بجيشه قاصداً قبائل فليتة فهاجمها
 

و كان أوامره إلى الجند: ألا يحرقوا بيتا ولا يقتلوا طفلاً أو شيخاً أو امرأة ولا يهلكوا غرساً
ولا شجرة، وبعد انتصاره عليهم استأمنوا فآمنهم ورّ د عليهم أموالهم وولى عليهم عمالاً


أي حكاماً بالمعنى الحديث" يثق بهم.

الهجوم على وهران

تناهت إلى مسامع الأمير أن حاكم وهران الفرنسي قد أغار على قرية الدبة جنوبي قلعة

لطريق
هوارة، ون ّ كل بأهلها، وأخذ القضية السيد قدور الدمجي أسيراً، فسارع إلى قطع ا
على العدو ومنعه من تحقيق هدفه، وما إن اقترب العدو من "الدار البيضاء" حتى أدركه
الأمير واندفعت سيول فرسان الجي المحمدي تسابق الريح نحو القوات الفرنسية،وكانت
أهازيج الحرب تخرج من صدور هزتها الحماسية وملأها الإيمان وانهال المقاتلون من الأودية
والمرتفعات واستشهد في ذلك اليوم من القادة المسلمين علي بن حبيب الرحاوي والميلود
المغراوي، أما العدو فقد كانت خسائره كبيرة فادحة.


كانت هذه أول معركة للأمير داخل البلاد، وحملت ريح النصر أنباء انتصارات الأمير
إلى القيادة في مدينة الجزائر، وفي الخامس عشر من نيسان عام 1833م عُزل الجنرال
"بويه" حاكم وهران المهزوم وعُّ ين الجنرال "دي ميشيل" مكانه حاكماً على المدينة، فسار
إليها بقوة كبيرة فوجدها تحت حصار جي الأمير مغلقة الأبواب وبلغه أن الأمير قبل

رجوعه إلى "معسكر" كلّف بعض القبائل بمراقبة حصون المدينة ومساعدة الجي
المحمدي على متابعة حصار وقتال الفرنسيين، وعندما لم يستطيع الدخول إلى المدينة ابتنى


حصناً با القرب منه في منطقة تدعى "بنفور" وأخذ يشتري ضمائر ضعيفي الإيمان من
أفراد القبائل المجاورة والدوائر لمساعدته.

الإصاح بين القبائل


عندما وصل الأمير عبد القادر إلى ناحية نهر "مينة" تناهى إلى مسامعه أن قتالا نشب
بين قبائل البربر فوصل في الوقت المناسب وأصلح بينهم وعاقب مثيري الفتنة وعقد صلح
بينهم وقعه رؤساؤهم نصه كما يأتي: قد أبرمنا بحول الله وقوته، الصلح المبرم بين أولاد
الأكراد وقبيلة أولاد شريف، وقبائل يسلم وقبائل الشرقية ومحونا أثر ما كان بينهم من
بقاي حميّة الجاهلية وألزمنا كل فريق منهم بالانضباط وطاعة الأنظمة المرعية في الدولة،


وبرفع كل قضايهم إلى من وليناه أمرهم، وجعلنا عقوبات شديدة على من يخالف

الأنظمة أو ينقض أمر هذه المصالحة أو يتسبب بإفسادها فيكون قد عّرض نفسه لسخط
الله وغضبه.
كان الأمير يؤكد أن الغاية الوحيدة لقبوله هذا المنصب وهذه القيادة هي أمن البلاد
واطمئنان الشعب على نفسه وأمواله وأعراضه وتَتعه بحقوقه الدينية، ثم طرد الغزاة
الفرنسيين ولا يمكنه ذلك إلا بمساعدة أبناء هذا الشعب بالمال والرجال، وإن المكاسب
التي تحصل عليها الدولة هي عائدة إلى الشعب، وكان في أكثر خطبه التي يضطر إليها


يقول: لا أظن أنه يخطر في بال أحدكم أن الأموال التي تدفعونها للجباة أبتغيها لنفسي أو
لنفقاتي الشخصية ولعلكم تعلمون بأي من سلالة عريقة وأن عائلتي مليئة، وكان الشعراء

والوعّاظ ورجال القوافل والمنشدون في الأسواق يؤ كدون هذه المعاي وقد جاء في بعض
الأناشيد الشعبية في بلاد القبائل أن الأمير لا يطمح أبداً إلى العرش والعظمة، وأن رغبته
فقط هي أن يخضع الناس لأوامره كإخوة ليدخل معهم مدينة الجزائر ويطرد الفرنسيين
منها وعندما لا ينفع الإقناع كان الأمير يلجأ إلى الحزم والقوة وعندما ينتصر كان الحزم
يكن
ينقلب حلماً، والقوة عفواً، ولكنه لم يكن يرحم الذين يتعاونون مع الفرنسيين ويثبت
عليهم ذلك.
ولدى عودة الأمير عبد القادر لمدينة معسكر بلغه خلع ابن نونة قائد الحضر في مدينة
تلمسان للطاعة، فسار إليه وهزمه ففر ولجأ بضريح الولي أبي مدين فلحق به ودخل
الضريح وأّ من ابن نونة وعاد لمعسكر بعد أن رتب شؤون تلمسان.1

وفاة والده واستمرار المعارك:

وفي طريق عودته من تلمسان بلغه نبأ وفاة والده وذلك في 3ربيع الأول سنة 1249ه
الموافق تَوز 1833م، وبعد قيامه بمراسيم دفن والده العظيم علم أن الفرنسيين المتحصنين

على البحر في منطقة مهاجر، راحوا يتعاملون مع بعض قبائل الناحية بالبيع والشراء
فباغت جنود الحامية وهم خارج الحصن يرعون قطعانهم فأمعن فيهم قتلاً، فلاذوا بالفرار
وعادوا للحصن فأسر بعضهم وغنم سائر قطعان مواشيهم وكان أمام المرسى عدد من
المراكب وصلت للتو فتوجه لها وغنم ما فيها من مؤونة وذخائر. وعندما وصل الخبر

للقائد العام الفرنسي بالجزائر قام بعزل الجنرال بويه وعين مكانه الجنرال دي

حكماعلى وهران في 15نيسان، أفريل 1833م، ووصل وهران فوجدها محاصرة من

طرف المسلمين وبعد أيم علم بحضور الأمير نفسه، فخرج بقوات ضخمة لنجدة حصن
عقور الذي هاجمه الأمير وتصدى الأمير للقوة الفرنسية التي كانت بقيادة الجنرال بوبريص
فهزمها وشتت شملها وهرب عساكر العدو نحو سور المدينة وعلم بعد هذه المعركة أن
قبائل أرزيو جددوا علاقاتهم مع الفرنسيين بإيعاز من رئيسهم المعتقل في معسكر، وعلم
من عيونه المبثوثة في المنطقة أن شخصاً اسمه طوبال يخرج كل يوم مع ضباط فرنسيين في
رحلات صيد، فترصد لهم الأمير وهاجمهم وجردهم من سلاحهم وأسرهم وعندما علم
جنود حامية أرزيو الفرنسية بالهجوم ركبوا المراكب وهربوا إلى وهران، ودخل الأمير أرزيو
فقبض على رؤوس القبائل التي تعاونت مع العدو، وأصلح بين سكانها وترك حامية تحمي
المدينة وعاد لمعسكر فكون مجلس قضاء حاكم القاضي أحمد بن الطاهر البطيوي وحكم
عليه بالإعدام.
وعندما لاحظ الفرنسيون نجاح الأمير في تجميع الشعب حوله وكبح القبائل التي أبدت

تعاوناً معهم ، قاموا بعمل يمس هيبة الأمير فغزو مستغانم مباغتة ودخلوها، ففر أكثر
سكانها إلى الريف المحيط بها، وعلم الأمير بذلك فتوجه بجي ضم الكثير من القبائل التي
هبت لندائه بالجهاد وكان العدو قد قام منذ دخوله المدينة بتحصين سورها ونصب
المدافع عليها وحاول الأمير تدمير السور بالمعاول والفؤوس فلم تفلح محاولته، فانسحب
بجيشه إلى مخيمه وأمر بأن يحفر نفق من المخيم إلى السور ووصل النفق السور فحفر تحت
أسسه وملئ بالبارود وأضرمت النار فانفجر لكن الانفجار لم يكن كافياً فقد فتح فتحة
صغيرة لا تكفي لدخول الجي للمدينة وعندما تأكد الأمير أن الجي الفرنسي تحصن
بالمدينة ويرفض الخروج لمنازلته وأن اقتحامها غير ممكن، عاد إلى مدينة معسكر.
وما إن اقتنع القائد الفرنسي دي ميشيل من رفع الأمير للحصار حتى خرج من مستغانم
وتوجه إلى أرزيو فاحتلها وترك حامية في حصنها ثم عاد إلى وهران وفي طريقه أغار على

قبيلتي الدوائر والزمالة فأسر عدداً من رجالهم ونسائهم، وعندما طلبوا رد أبنائهم الأسرى

اشترط عليهم الانتقال إلى ضاحية وهران والإقامة بها وقبول الخضوع للسلطة الفرنسية،
وفي نيته استعمالهم كوسيلة تضمن موارد التموين لجيشه بالحبوب والمواشي فقبلوا وانتقلوا
إلى حيث أراد العدو، وعلم الأمير بذلك، فأرسل وفداً حاور رؤساء القبيلتين وبّ ين لهم أن
رضوخهم لإرادة العدو خروج عن الإسلام فتراجعوا، وعادوا إلى منازلهم الأولى وأفسد
بذلك خطة القائد الفرنسي الذي فشل في فك عزلته.
واتبع الأمير خطة تتمثل في إرسال كوكبات من الفرسان خفيفة تغير على القبائل التي
تتعامل تجاريً مع العدو وتعاقبها وتفرض عليها تطبيق أوامره بصرامة بعدم التعامل مع
جي العدو، وتغير على حاميات العدو بعد أن ترصد خروج جنودها خارج الأسوار

، فاشتد الحصار على العدو الذي صار يأتي بتموينه عن
طريق البحر من خارج منطقة وهران  فنال منه قتلا وأسرا  وغنيمة.
وأمر الأمير القبائل بعدم التعامل مع الفرنسيين وعدم بيعهم أي شيء، وكانوا يعتمدون في
تَوينهم على حبوب ومواشي هذه القبائل. وأحس الجنرال دي ميشيل بالخطر الذي
يتهدد قواته التي صارت محاصرة بلا غذاء، ونظراً لعدم استطاعة قواته الخروج من وهران
ومحاربة الأمير فقد قرر فتح مفاوضات معه، وأرسل للأمير عدة رسائل تجاهلها في بداية
الأمر ظناً منه بأنها مجرد حيلة القصد منها تهدئة المعارك ريثما تصله إمدادات جديدة،
لكن عندما اقتنع الأمير بجدية الطرف الفرنسي في البحث عن التوصل إلى اتفاق رد على
الجنرال بعد أن استشار مجلس شورته، وأرسل وفداً من وزير خارجيته الميلود بن عراش
والآغا خليفة بن محمود وتقابل الوفدان خارج مدينة وهران في 25رمضان سنة 1249ه
الموافق 1834/ 2/ 4م وبعد مفاوضات طويلة برهن فيها الوفد المفاوض الجزائري مقدرة
التفاوض، اتفق الطرفان على صيغة الاتفاق وتحرك الوفد الجزائري نحو معسكر تعرض
مسودة الاتفاق على الأمر
ولقد بقي الأمير بعيداً عن أهله وعائلته طيلة اربعة عشر شهراً متصلة في تلك الفترة من
حياته حيث نظم قصيدته المشهورة التي جاء فيها:
تسألني أم البنين وإنها
لأعلم من تحت السماء بأحوالي
ألم تعلمي يا ربة الخدر أنني
أجلي هموم القوم في يوم تجوالي

وأغشى مضيق الموت لامتهيبا
وأحمي نساء الحي في يوم تهوال
يثقن النساء بي حيثما كنت حاضرا
ولا تثقن في زوجها ذات خلخال
أمير إذا ما كان جيشي مقبلاً
وموقد نار الحرب إذ لم يكن صالي
إذا ما لقيت الخيل إي لأول
وإن جال أصحابي فإي لها تال
أدافع عنهم ما يخافون من ردى
فيشكركل الخلق من حسن أفعالي
وأورد رايت الطعان صحيحة
وأصدرها بالرمي تَثال غربالي
ومن عادة السادات بالجي تحتمي
وبي يحتمي جيشي وتحرس أبطالي

وبي تتقي يوم الطعان فوارس
تخالينهم في الحرب أمثال أشبال
إذا ما اشتكت خيلي الجراح تحمحما
أقول لها صبراًكصبري وإجمالي
وأبذل في الروع نفساًكريمة
على أنها في السلم أغلى من الغالي
وعني سلي جي الفرنسيين تعلمي
بأن منايهم بسيفي وعسالي
سلي الليل عني كم شققت أديمه
على ضامر الجنبين معتدل عال
سلي البيد عني والمفاوز والربا
وسهلاً وحزناًكم طويت بترحالي
فما همتي إلا مقارعة العدا
وهزمي أبطالاً شداد بأبطالي
فلا تهزئي بي واعلمي أنني الذي
أهاب ولو أصبحت تحت الثرى بالي

معاهدة ديمشال:

توالت الضربات المتتالية على الحاميات الفرنسية في المدن الساحلية الكبرى من كل
حدب وصوب، فاستنكر عدد من البرلمانيين الفرنسيين الاحتلال المنظم للجزائر بسبب
الثمن المالي والبشري الباهظ الذي دفعه الشعب الفرنسي، ولما طرحت الميزانية المخصصة

لمواصلة الحرب في الجزائر أمام البرلمان الفرنسي للمناقشة تم إقرار تكوين لجنة من طرف
الملك لويس فيليب في 7جويلية 1833م عرفت فيما بعد باللجنة الأفريقية مهمتها
تقصي الأوضاع وجمع المعلومات والحقائق وتقديم اقتراحات وجاءت اللجنة إلى الجزائر
ومكثت مدة ثلاثة أشهر، من 2سبتمبر 1833م إلى 9نوفمبر 1833م، خلصت إلى
نتيجة مفادها ضرورة احتفاظ فرنسا بالنقاط الرئيسية التي تم احتلالها وهي مدن الجزائر
ووهران وبجاية وعنابة والجهات المحاذية لها فقط، باعتبارها ممتلكات فرنسية بأفريقيا دون
الدخول في عمق التراب الجزائري، وذلك لإنقاذ الشرف القومي الفرنسي، كما عللوا
ذلك، فوافق البرلمان على هذه المقترحات، غير أن الجنرال فوارول لم يكن ينتظر نتائج
اللجنة وراح يأمر الجنرال تريزل للهجوم على ميناء مدينة بجاية ويحتله في 6أكتوبر من
نفس العام وخلال تلك الفترة استطاع الأمير عبد القادر أن يضرب حصاراً اقتصاديً
على المدن المحتلة بعدما أصدر قراراً بمنع المبادلات التجارية مع المحتلين وأصبحت
الحاميات الفرنسية في مأزق خطيراً أمام هذا الحصار لأنها كانت تعتمد على القبائل
الجزائرية في تَوينها بضرورات الحياة وأمام هذا الوضع راح الجنرال ديمشال يستغل كل
حادثة ليكتب إلى الأمير رسائل من أجل فتح مفاوضات لعقد اتفاق سلمي معه، منها
الطلب الخاص بإطلاق سراح الجنود الفرنسيين الذين اعتقلوا بعد أن هاجمتهم قوات
المجاهدين وقتلت منهم وطلب من الأمير يرجوه فيه العفو عن الأسرى المنكودو الحظ




ويذكره بأنه شخصياً قد سبق له أن أطلق سراح أسرى من العرب من دون شرط عندما
سقطوا أسرى في يده بعدما هجم عليهم في8 ماي 1833م وكان نص رسالته كالتالي:
إنني لا أتردد في أن أكون البادئ في إتخاذ هذه الخطوة إن وضعي كما هو، لا يسمح لي
أن أفعل ذلك، ولكن شعوري الإنساي يحملني على الكتابة إليك، لذلك فإنني أطلب
حرية أولئك الفرنسيين الذين سقطوا في كمين بينما كانوا يحمون عربياً. إنني لا أتوقع أن
تجعل إطلاق سراحهم مرهوناً بشروط معينة، مادمت أنا قد أطلقت في الحال سراح بعض


أفراد قبائل الزمالة وقبائل الغرابة عندما سقطوا في يدي نتيجة الحرب، ومن دون شروط،
بل قد عاملتهم أحسن معاملة، فإذا كنت تود أن تكون رجلاً عظيماً فإي أرجو أن لا
تتأخر في الكرم وأن تطلق سراح أولئك الفرنسيين الذين هم الآن رهن يدك.1
وقد رد الأمير عبد القادر على رسالة الجنرال ديمشال بتحرير مختصر يُظهر دقّة أفكار
الأمير وحسن سياسته، فقد جعل اللوم على فرنسا التي أرسلت قواتها وجيشها عبر
البحار لمحاربة الجنرال ،2فأرسل الجنرال ثانية يطلب الأسرى، ولما لم يستجيب له الأمير

أيضا أرسل للمرة الثالثة كتاب تهديد، فأجابه الأمير برسالة يقول فيها: أنتم لا تُقِّ درون
قوة الإسلام، مع أن القرون الماضية أعدل شاهد على هذه القوة، وانتصارات الإسلام
معروفة لديكم ونحن وإن كنا ضعفاء كما تزعمون، فقوتنا بالله الذي لا إله إلا هو والحرب
سجال يوم لنا ويوم علينا، غير أن الشهادة في سبيل الله هي ما نصبو إليه، ودو ّ ي القنابل
وأزيز الرصاص وصهيل الخيول هي أطرب إلينا من صوت الغواي ، فإن كنتم جاّ دين

في الوصول لاتفاقية وعقد صلات وديّة بيننا وبينكم لنرسل لكم رجلين من كبار
قومنا للمفاوضة حيث أننا لاحظنا من رسائلكم المتعددة رغبتكم في الجنوح إلى السلم.3
و كان في نيّة الأمير من هذه الخطوة مناورة سياسية يحقق بها هدفه للاستعداد والبناء
وليس معاهدة ترمي إلى الصلح الدائم.
وفور تسلم الجنرال ديمشال رسالة الأمير أوفد مردخاي موسوي لتسليمه رسالة جديدة

عّدل فيها من لهجته يقول فيها: إلى سمو الأمير عبد القادر أيها الأمير لم يكن بعيداً أبداً
عن فعل أي أمر حسن، فإن كان سموكم يقبل أن يتفاوض في أمر معاهدة بيننا، نوقف

بها سفك دم أمتين اقتضت الإرادة الإلهية ألا تكونا تحت سلطة واحدة، سيكون لي أمل
كبير في الحصول على نجاح اتفاقية المفاوضة بيننا.
وكان تاريخ رسالة الجنرال هذه في كانون الأول من عام 1833م، وعندما تسلّم الأمير




هذه الرسالة وقرأها أيقن أن عدوه وقف موقف المستغيث، فعقد ا جتماعا حضره جميع
أفراد مجلس الشورى والأعيان وأطلعهم على مضمون رسالة الجنرال دو ميشيل، وبعد
تدارس الموضوع الذي كان يحتاج لأكثر من اجتماع قرروا بالإجماع تأجيل الرّ د على
الرسالة بشكل رسمي، واكتفوا بإبلاغ الرسول رأيهم هذا: أي تأجيل الرّ د على الرسالة.
وصلت الرسالة الشفوية إلى الجنرال، ثم أخذت رسائل الجنرال تتوالى في طلب الهدنة
  وفي الرابع من فبراير شباط عام 1834م أرسل الأمير وزير خارجيته الميلود بن عراش والآغا
خليفة بن محمود للتداول في أمر الهدنة مع الجنرال ديمشال وكانت المقابلة بين القادة
الفرنسيين ومندوبي الأمير خارج مدينة وهران على بعد فرسخين منها، وجرت المباحثات
بشكل وّ دي.
وقد كان في ذهن مندوبي الأمير صورة كاملة لما يجب القبول به وما لا يجب الاتفاق
عليه، لذلك جاء صك الاتفاقية وفق إرادة الشعب الجزائري ومصالحه في تلك الفترة من
التاريخ، وفي يوم السابع عشر من شهر شوال عام 1246ه الموافق السادس والعشرين
من شهر فبراير شباط عام 1834م وق ع الاتفاقية الجنرال ديمشال وبعد ذلك عرض ابن
عراش الإتفاقية المذكورة على الأمير فوقعّها بدوره وقال المؤرخ الفرنسي لويس دونلوت: إن
الميلود بن عرش وزير السلطان عبد القادر ومعتمده الخاص في عقد المعاهدة، استُقبل
استقبالاً رسمياً فيه كل معاي الاحترام، و كان أمراء الجي الفرنسي مصطفين ك ّ ل على
حسب رتبته العسكرية يستمعون لما جاء في صك الاتفاقية وبعد تلاوتها وقعّها الجنرال
ديمشال.

كانت بالأمير حاجة ما ّسة جداً إلى الهدنة لتقوية الجبهة الداخلية، وتنظيم جيشه الفتي
واعتبر هذه الهدنة مناورة عسكرية يتفرع فيها لبناء الدولة الإسلامية وتقوية الوحدة
الوطنية، ذلك أن عصيان بعض القبائل ووقوف البعض الآخر مع الفرنسيين أربك قواته
وأرهق قدراته على الاستمرار في الكفاح ضد المستعمر الغاصب ومن جهة ثانية تَكن
بهذه الهدنة من التركيز على جبهة واحدة مهمة، لأن الحرب على عدة جبهات كانت
خطيرة وقاسية لذلك لابد من تحييد إحداها.
ولم ترتح الحكومة الفرنسية لهذه الاتفاقية، على الرغم من توقيع الملك عليها، وكانت ترى
فيها مكاسبكبيرة للعرب، ومع الأيم أخذت تفكر بشكل جّ دي في نقضها.
قال المؤرخ الفرنسي لويس دونلوت: إن دولة فرنسا قد حاولت أن تنقض هذه الاتفاقية،
واستعملت الكثير من المكائد، لكن ذكاء الأمير هذا الشاب الحديث الس ّ ن ودهاءه
السياسي عرقلا مساعيها وأطالا مدة الهدنة.1

نص معاهدة ديمشال:

تَكن الأمير عبد القادر في المرحلة الأولى من مواجهة الجي الفرنسي وإجباره على
التمسك والاكتفاء بالبقاء في مدن مستغانم، أرزو، ووهران، واضطر الجنرال الفرنسي
ديمشال أن يبرم معاهدة مع الأمير عبد القادر في سنة 1833م والتزم فيها الطرفان بما
يلي
يعين الأمير وكلاء له في مدن مستغانم ووهران، أرزو، كما تعِّ ين فرنسا و كيلاً لها في
معسكر .
احترام الدينة الإسلامية.
التزام الفريقان برد الأسرى.

إعطاء الحرية الكاملة للتجارة
التزام كل طرف بإرجاع كل من يفر إلى الطرف الآخر.
لا يسمح لأي أوروبي أن يسافر داخل البلاد إلا إذا كان يحمل رخصة من وكلاء الأمير
وموافقة الجنرال الفرنسي.
كانت شروط الجنرال مكتوبة بالفرنسية وموقعة من الأمير وشروط الأمير مكتوبة بالعربية
وموقعة من الجنرال، وهذا يؤكد أهمية اللغة في تجسيد السيادة الوطنية في دولة الأمير عبد
القادر
وبعد تبادل الوثائق جرى حديث طريف بين الجنرال والوزير الميلود نورده في شكل حوار

كنت عازماً قبل عقد المعاهدة أن أطلب من دولتي عشرة الآف جندي زيادة على ما
عندي، وأخرج من هذه المدينة وأتابع محاربتكم مدة شهر، وما يدريك ي ميلود أن حملة
كهذه من شأنها أن تلحق الضعف بسلطانكم؟
في سيادة الجنرال إننا لا نحاربكم محاربة نظام وترتيب، ولكن محاربة هجوم وإقدام ولو
فعلت ما قلت وخرجت بهذه القوة كنا نتقهقر أمامكم متوغلين في الصحراء بأهلنا
وأثقالنا وفي حال هذا التقهقر نناوشكم القتال حتى لا ترجعوا عنا، ثم نصابركم حتى
تضعف شوكتكم ومتى سنحت الفرصة وتورطتم في فيافي الصحراء قلبنا الكرة عليكم
وأحاطت جيوشنا بكم من كل ناحية وتكون ذخائركم نفدت وقوتكم ذهبت وعساكركم
تعبت، فحينئذ ماذا كنت تصنع أيها الجنرال؟
وتَلك الجنرال العجب من بلاغة هذا الجزائري الذي رد على صلفه وغروره في تواضع
وإيجاز مبرزاً تكتيكاً عسكريً لم يكن يخطر على بال.


وبعد المعاهدة عّ ين الأمير سفراءه سماهم و كلاء في مدن الجزائر ووهران وأرزيو متجنباً
إعطاءهم لقب سفراء حتى لا يعترف بملكية هذه المدن لفرنسا، ويوحي بأنها جزائرية وأن
ممثليه فيها مجرد وكلاء له يقيمون في أرض جزائرية وهذا يبرهن على رقي دبلوماسية دولة
الأمير، وعّ ين الفرنسيون سفيراً لهم في معسكر الكومندان عبد الله ويسون وهو من مماليك
مصر الذي انخرط في صفوف الجي الفرنسي.
اعتبرت المعاهدة نصراً للأمير، فقد إعترفت رسمياً باستقلال الأمير الذي فاوض الجنرال
الفرنسي عن طريق مندوب عنه وفوضه بالتوقيع عليها، واحتفظ لنفسه بالمصادقة عليها
مثله مثل ملك فرنسا، و كتأكيد على سيادة دولة الأمير فقد نصت المعاهدة على تبادل
التمثيل القنصلي وتبادل المجرمين بين الطرفين، وناق وزير الدفاع الفرنسي الشروط التي
فرضها الأمير في هذه الاتفاقية، لكنه وافق عليها في النهاية بهدف كسب الوقت ريثما
تعد العدة للسيطرة الكاملة على سائر البلاد الجزائرية، وصادق الملك على المعاهدة من
ضمن الشروط التي فرضها الأمير على المفاوض الفرنسي احتكاره لتجارة الحبوب، وألا
تشتري فرنسا الحبوب الجزائرية إلا عن طريقه وضمن هذا الشرط في ملحق خاص
بالمعاهدة، وبالرغم من أن الطرف الفرنسي وقع على هذا الملحق، إلا أن فرنسا تراجعت
فيما يتعلق بهذا الشرط بدعوى أن الملحق كتب بالعربية 1والحقيقة إنه لم يكن ملحقاً، إنما
كان بنداً داخلاً في صلب المعاهدة، كشروط الأمير.
اعتراف سلطان مراكش وبسط الأمير لنفوذه:
في العاشر من شهر تَوز عام 1834م وصل وفد السلطان عبد الرحمن بن هشام أمير
المغرب الأقصى لتهنئة الأمير عبد القادر بالانتصارات الباهرة، حاملاً إليه الهداي الثمينة
مع كميات وافرة من الأسلحة والذخائر وعدد من الجنود الفرنسيين الذين فروا إلى المغرب

الأقصى وألقي القبض عليهم هناك وقد أرسلهم السلطان إلى الأمير عبد القادر ليرى رأيه
فيهم، فسلمهم الأمير إلى السلطات الفرنسية حسب مضمون المعاهدة ونصوصها.
وبعد المعاهدة شرع الأمير عبد القادر يطبق خطته التوحيدية، فقام على الفور بمهاجمة
القبائل الرافضة لمبايعته قرب تلمسان وأخضعها وذلك يوم 1834 /7 /12م، وكان لهذا
الانتصار أكبر الأثر في بسط نفوذه على غرب البلاد باستثناء مدينتي وهران ومستغانم
وقلعة تلمسان
بعد أن دان الغرب للأمير توجه إلى ناحية مدينة الجزائر وحاول إخضاع القبائل هناك،
لكن ديمشال أبلغه أن هذا العمل سيسيئ إلى علاقاته مع فرنسا، وطلب منه عدم
الاقتراب من مدينة الجزائر وشجعه على السيطرة على قسنطينة والأقاليم الداخلية وظل
الوجود الفرنسي مقتصراً على مدن الجزائر ووهران وبجاية وعنابة.
وانطلق الأمير في توحيد الُ قطر تحت سلطته والحد من توغل الفرنسيين داخل البلاد، فقام
بضم تيطري إلى دولته بالرغم من احتجاج ديمشال وانتهز فرصة قيام أتباع الطريقة
الدرقاوية بثورة دينية فهاجم مليانة ومدية واحتلهما، وتَكن بذلك من الإقتراب من مدينة
الجزائر شعر الفرنسيون بأن الأمير يبسط نفوذاً من شأنه أن يجمع الشعب كله تحت
دولته، فبدأوا يحيكون المؤامرات ضده فدفعوا بعض القبائل القريبة من مدينة وهران أن
تتمرد عليه ولكن الأمير هزمهم وطلبوا منه الأمان واستجاب لهم.
وعاد الأمير إلى مدينة معسكر بعد أن أعاد القبائل المتمردة إلى سلطته في مساحة واسعة
من الوطن. وتوجه إلى مدينة تلمسان فدخلها واستقبله سكانها استقبالاً حافلاً وأقام فيها

زمناً قام بإصلاح أمورها وعلم وهو في تلمسان أن بعض عشائر الدوائر والزمالة تحركت
نحو وهران للاحتماء بالمحتل، فسارع إليها ورد بعضها، ونزل بوادي الكحيل فحضر له

رؤساء عشائر الدوائر فأمرهم أن يتركوا المنطقة وينتقلوا إلى ناحية معسكرهم وعّ ين لهم
محلة العرقوب ليقيموا فيها منازلهم.
قام الأميريحث الناس على العمل المجدي من زرع ورعي وتجارة، تحسيناً لأحوال الرعية،
وسرعان ما عم الأمن واختفى الشقاق بين القبائل بسبب قيام خلفاء الأمير بحل
النزاعات وفقاً لشريعة الله، وتَكن هذا الأمير الشاب خلال عشرين شهراً من تاريخ بيعته
من بسط سلطته على مناطق واسعة بواسطة الترغيب والترهيب مع رجحان كفة
الترغيب، وكان المواطنون يستجيبون للأمير طواعية اقتناعاً منهم بأن حكمه مبني على
أحكام الشريعة الإسلامية، ولم تشذ سوى عشائر الدوائر والزمالة لتعودها منذ عشرات
السنين على العي على استغلال الشعب واكتساب المال من الناس بدون حق،
مستغلين التفويض الذي منحه لهم الحاكم في عهد الأتراك.1
وقد تَكن الأمير بفرض شرط في معاهدة دي ميشيل تبين عن فهمه لأمور الاقتصاد.
وينص هذا الشرط على أن العمليات التجارية التي يقوم بها الفرنسيون لشراء المواد
التموينية لابد وأن تتم في ميناء أرزيو تحت نظر ومراقبة موظفي إمارته وأن كل البضائع
التي تأتي من الداخل تدخل هذا الميناء ومنه تصدر لفرنسا وأوروبا، وترسل منها المواد
التموينية إلى مدينتي وهران ومستغانم اللتين يحتلهما الفرنسيون بالقدر الذي يكفي أهلها.
كان موظفو الإمارة يشترون البضائع من الناس ويقومون بشحنها إلى أوروبا، وسخط
التجار الفرنسيون على هذه المعاملات التجارية التي جمدت سائر نشاطهم، وغضبوا على
الجنرال دي ميشيل الذي قبل هذا الشرط التجاري المدمر لهم وشكوا للجنرال الذي
أجرى اتصالاً مع الأمير الذي أمر بتخفيف هذه الإجراءات التجارية، علم الأمير أن

سكان وهران ومستغانم المحتلتين يعودون لمنازلهم، فأمر الأمير وكلاءه بمنعهم من العودة
حتى لا يستغلوا من المحتل، وحتى يبقى هذا معزولاً عن الأهالي.
استبدال الجنرال ديمشال:
استبدلت الحكومة الفرنسية الجنرال ديمشال الذي فشل في نظرهم، وذلك بإعطائه للأميرا
قوة بالمعاهدة التي وقعها معه وعّين بديلاً له كحاكم لوهران الجنرال تريزل،كما عين

الكونت دوروان دورلون والياً على الجزائر، مع تكليفه بالمحافظة على المعاهدة الجنرال لكن
ما إن وصل وهران حتى راح يبت الدسائس ضد المعاهدة التي لم يكن يؤمن بها.
واتفق أن توافق وصول تريزل وهران مع اتصال سكان تيطري بالأمير وإرسالهم بيعتهم له،
وفكر الأمير في ذلك ملياً، ثم قرر عدم اتخاذ قرار فيها إلا بعد الاتصال بالوالي الفرنسي،
فأرسل وزير خارجيته الميلود بن عراش رسالة إلى الكونت يهنئه فيها بتوليه الولاية ورد
فيها: إن معتمدي ابن عراش وجهته إلى حضرتكم ليبلغكم التهنئة والتبريك من قبلي على
الجزائر، وقيامي بالمحافظة على أمور المعاهدة وأوعزت إليه أن يفاوضكم في أمور تعين
على إجراؤها، لتوطيد الراحة في جميع المقاطعات الداخلية في السهول والجبال والمناطق
التي على ساحل الجزائر وجوارها ووهران والمدية، وخشيت أن يكون ذلك سبباً مكدراً لما
بيننا من المصافاة.
وقد أوحى الأمير برسالته أن يده ينبغي أن تكون طليقة في جميع الأقاليم ماعدا المدن
الأربع التي بيد الفرنسيين، وكان يريد أن يرتكز على جواب الكونت لتبرير ضم التيطري
إلى إمارته.
وبعد أن أكرم وفادة مبعوث الأمير رد الكونت بالرسالة التالية: وصلني كتابكم وبلغني
معتمدكم ما تعلقت به إرادتكم في الجهة الشرقية، وحيث إن جعل مقاصد سموكم توطيد


الراحة العامة كما هو المطلوب والمرغوب فيه عند دولة فرنسا ورجالها وإي آمل نجاح
مقاصدكم ورفاهية شعبكم وسعادة البلاد، ولك أن تعتقد بأنك لا تقوم في كل أرض
تقصد الاستيلاء عليها، بشرط أن تكون لك قوة على أخذها .1وكان الكونت يضع بين
عينيه وصية حكومته: بأن لا يغضب الأمير عبد القادر، وأن يعمل على كل ما من شأنه
تجنب طلب قوات عسكرية من باريس، وشعر الأمير بأن يديه طليقتان فقرر التوجه إلى
تيطري، وعندما تأهب للسفر كتب إلى حاكم الجزائر يخبره بذلك فكان جواب الكونت
ما يلي: فهمت ما تضمنه تحرير سموكم والذي أرى أن هذا العزم خال من الصواب،
ليكن في علمكم أن الجنرال ديمشال لم تكن له سلطة ولا حكم إلا على إيلة وهران،
ولذلك لم يتعرض لما يتعلق بباقي الولايت، ومهما توسعت دائرة التأويل فيما جرى في
معاهدة الثامن والعشرين من فبراير، فلا يكون لكم طلب إلا على إيلة وهران، وبناء

على ذلك فلا نسمح لكم أن تدخلوا إيلة تيطري، ولا أن تتجاوزوا وادي الشلف شرفا
ونهر أرهيو إلى كوجيلة، وعلى العموم فلكم أن تحكموا في البلاد التي هي لكم الآن
بحسب شريعة الإسلام، وبذلك نكون أصدقاء ولا أقدر أن أرضخ لعساكركم أن يدخلوا
ولاية تيطري، لأن كل ما يجري هناك يخصني وإي مستمر مع ساكني الأقاليم على السلم،
ومرتكز على تعيين مراكز فرنسية في البليدة وبوفاريك متى رأيت ذلك مناسباً، ورد الأمير
على مراسلة الكونت برسالة قال فيها: لقد وصلني تحريركم وتعجبت مما ذكرتَوه فيه. إن
مرمى أفكار حضرتكم بعيد عن الإصابة، لأن محافظتي على السلم لا يجهلها أحد، ولولا
ذلك ما احتجت إلى مذاكرتكم فيما أجريه في وطني وقصارى الأمر أنه لا يبعد أن يكون
بغض أهل الفساد القى في ذهن حضرتكم من أوجب أن يكون جوابكم على هذا
الأسلوب وعلى كل حال فإي عدلت الآن عن النهوض إلى تيطري، إبقاء للسلم ورعاية
له.


محاربة الأمير للشعوذة والدجل:

كانت الوفود تتسابق مقدمة الطاعة للأمير عبد القادر مثل رئيس قبيلة أنكاد حليف
الدوائر، وابن عربي رئيس قبيلة أولاد خويدم وغيرهما.
وقف الأمير متأملاً في رسالة الكونت ولم يتابع السير ورأى التريث وعدم الذهاب إلى
تيطري، إذ كان لا يريد أن يأتي حصاد مكاسب المعاهدة قبل الأوان وهو لم يستكمل
بعد بناء الدولة والجي ولا يزال أمامه الكثير من المصاعب لتحقيق الوحدة الوطنية
داخل البلاد، فجمع المجلس العسكري لدراسة الأمر وفي هذه الأثناء كان سكان إيلة
تيطري يقيمون الزيناث ويستعدون لاستقبال أمير البلاد ناصر الدين عبد القادر بن محي


الدين، وعندما طال انتظارهم له، ظهر بينهم رجل اسمه الحاج موسى بن حسن  ويعرف
بأبي حمارة، جاء هذا الرجل منذ زمن من مصر، فاستوطن بلاد أولاد نائل وأظهر النسك
والصلاح وعندما تأخر الأمير في دخول إيلة تيطري جمع أبو حمارة حوله بعض المريدين

وخطب في الناس طالباً منهم الطاعة له فقاوموه وأطلقوا عليه وعلى جماعته النار من
مدفع كان في حوزتهم من أيم الحكومة العثمانية، فانفجر هذا المدفع فأوهمهم هذا الرجل
أن تلك معجزة من معجزاته وكرامة له، فحدث شغب كبير وبلبلة وسادت الاضطرابات
إيلة تيطري ووصلت أخبار تلك الاضطرابات إلى القوات الفرنسية.1
وانتظر الأمير عبد القادر ماذا يفعل الفرنسيون مع أبي حمارة وعندما تأكد أنهم صمتوا
عن ذلك قرر التحرك نحو تيطري وبخاصة بعد علمه أن عشائر الدوائر والزمالة بدأت
تتحرك ضده متشجعة بحركة أبي حمار وأوعز لأخيه الكبير محمد سعيد أن يراقب
الفرنسيين من ناحية مستغانم وأرزيو، وإلى البوحمدي وإلى تلمسان أن ينحدر بجيشه
نواحي وهران ليشغل حاكمها وتوجه هو إلى تيطري بعد أن وافق المجلس العسكري


بالإجماع. ولما علم أبو حمارة جمع جموعه وخطب الناس وواعدهم بالنصر، وقال لهم: آية
نصرنا ستكون أن مدفع ابن محيي الدين لن يعمل فينا، وأن باروده عند المواجهة سيصير
ماء. ثم كتب إلى الأمير يدعوه إلى الجهاد.
وقرر الأمير مواجهة أبي حمارة واتخذ هذه المواجهة عملاً تربويً للقضاء على الخزعبلات
التي تشوه الإسلام والبدع والتقى الجمعان في بلاد وامري وكان قد شاع بين الجنود تخوفهم
من كرامة الدجال المزعومة فألقى الأمير فيهم الخطاب التالي الذي برهن فيه عن سخطه
على الخزعبلات والدجل والبدع وحرصه على تحرير أبناء بلاده من ظلمات الجهل ليدخل
رسول
بهم بوابة الحضارة والعصور النّ يرة، فقال: الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا
الله وعلى آله وأصحابه، أما بعد فاعلموا أن الحق تعالى قلدي هذا الأمر للمدافعة والذب
عن الدين والوطن وقد بلغكم خير هذا الرجل فإن تركته وشأنه أخاف على الوطن أن
تغتاله غوائل الفرنسيين على حين غفلة، وينشأ عن ذلك من المفاسد ما يعسر علينا
إصلاحه، هذا وإي أختبر أمره الذي كاد أن يوقع في قلوبكم ما يؤول بكم إلى تشتيت
الشمل وتبديد الجمع، وذلك إي أطلق عليه مدافعي فإن كان الأمر كما زعم، فأنا أول
مطيع له بعد اختبار أحواله من جهة الشرع وإن كان الأمر يخالف زعمه فهو دجال من
دجالي هذا الوقت ،1ثم أمر بالزحف وإطلاق المدافع على أبي حماره، فلما نزلت
القذائف على جموعه انهزموا بعد أن تصوروا أن كرامة قائدهم ستجمد القذائف في
مدفعها، وتفرقوا في الجبال والأودية، وفر الدجال تار كاً نساءه وأولاده وسائر سلاحه
وعتاده في مخيمه، وانطلق جنود الأمير يطاردون فلول الضالين، وشعر الأمير بانخداع
القبائل التي تحارب مع الدجال، وفتح لرؤوسائها المجال للاتصال به عندما علم برغبتهم
فتقدموا منه وطلبوا منه العفو، وبينوا له أنهم كانوا واقعين تحت سحر كراماته المزعومة،
فعفا عنهم، وجاء الطلب من أبي حماره برد نسائه وأولاده له، فاستجاب الأمير لطلبه، ثم


توجه الأمير إلى المدية فدخلها وجاءته الوفود من سائر أنحاء الولاية فبايعته، وبعد أن قام
بإصلاح شؤونهم عّ ين خليفة على الولاية وهو السيد محمد البركاي .
وشاع خبر هذا النصر العظيم وحاول الجنرال تريزل أن يتخذ من سيطرة الأمير على ولاية


تيطري نقضاً للمعاهدة وطالب بشن حرب على الأمير، لكن الحاكم العام رفض مقترحه
قائلاً: لست مأموراً من الدولة بنقض المعاهدة وغير مستعد الآن لفتح باب الحرب ويجب
علينا أن نتعامل مع الأمير بالحكمة، ونسعى معه لتجديد المعاهدة مادام في المدينة التي
استولى عليها وعلى إيلتها ونتغاضى عما فعله ونتجنب الصدام به، فوافق أعضاء قيادته
على ذلك.
الِكومة الفرنسية تسعى لتعديل بنود المعاهدة:
في الرابع من يوليو عام 1836م وصل وفد من الحكومة الفرنسية برئاسة سنت أيبوليت
وبندران يحملان هداي فاخرة إلى جانب صورة عن تعديل بنود في معاهدة دي ميشيل
حررها مستشارون سياسيون وعسكريون ونص هذه الشروط:
يعترف الأمير برئاسة ملك فرنسا على أفريقيا.
تكون سلطة الأمير عبد القادر محصورة في إيلة وهران المحدودة بنهر الشلف ونهر أرهيو
إلى كوجيلة.
تعطى الرخصة العامة للإفراج للسفر في سائر جهات البلاد.
إعطاء الحرية التامة للتجارة الداخلية.
لا يصير تسليم ولا استلام شيء من الغلال والبضائع إلا في الأساكل التي بيد
الفرنسيين.
يدفع الأمير عبد القادر ضريبة سنوية للدولة مع وضع رهائن للأمن على ذلك.
ومعنى هذه الشروط تجريد الأمير من أي نوع من أنواع السيادة وجعله مجرد موظف في
الإدارة الفرنسية.
استقبل الأمير الوفد ثم أمر بإكرام قادتهم بتقديم واجب الضيافة، وتركهم للاستراحة
وطلب اجتماع المجلس الاستشاري المكون من اثني عشر رجلاً بما فيهم الأمير، وبعد
جلوسهم قرأ عليهم رسالة التعديل، فكان رأي كل منهم مطابق للآخر، وهو أن الجنرال
تريزيل لم يعد أمامه سوى خيار واحد وهو الخضوع لسلطة الدولة الجزائرية في كل ما
يتعلق بداخل البلاد، وأن الأمير يستطيع فعل ما يشاء لذلك يريد الآن تعديل المعاهدة
بشكل تصبح فيه لاغية، وقال الأمير عبد القادر مخاطباً أعضاء المجلس: نحن الآن في
مكانة ممتازة بفضل جهادنا، أما طلب اعترافنا بسيادة فرنسا في البند الأول فهذا أمر
مستحيل .2ثم جلس وراء مكتبه الخشبي وأمسك بريشته و كتب بخط يده جواباً على
المقترحات واحتجاجه بشدة على تعديل بنود المعاهدة وأنه يراه خرقاً صارخاً لمعاهدة

ديمشال و كتب: لقد أعطينا أمراً لو كيلنا ميلود بن عراش ليؤ كد لكم عن أفضل الطرق
لإقامة الهدوء بيننا وبينكم ونطلب :
أولا
الاستمرار بالوضع الراهن
ثانيا
 رفضنا طلبكم باعتبار ملك فرنسا ملكاً على أفريقيا
لثالثا 

إن البند الأول في المعاهدة ينص على التوقف على الحرب بيننا وبينكم فقط، ولا
ينص على الاعتراف بسلطة فرنسا.
وختم الرسالة ولم يسلمها إلى الوفد إلا بعد أن اصطحبه برحلة استعراضية إلى إقليم
تيطري ووهران، وظهر الضابط سانت هيوليت، وعند دخول موكب الأمير إيلة تيطري
كانت أشعة الشمس في طريقها إلى المغيب وراء الأفق، ولكنها أضفت على هذا الموكب
الكثير من المهابة وأخذت زغاريد النساء تسمع من بعيد، وطلقات البنادق تختلط

بأصوات الرجال "الله أكبر" تعلن عن قدوم موكب أمير البلاد الرسمي، تتقدمه كوكبة من
الفرسان حاملة راية الجهاد، ثم ظهر أمير البلاد ببرنسه الأبيض ممتطياً صهوة جواده

الأسود وقد مّر وسط الزحام الشديد و كان الناس يسأل بعضهم بعضاً: ما هذه القوة



الإلهية والسياسية الحكيمة التي جعلت أميرنا يتخذ من أعدائه أتباعاً له، وليس ببعيد عنه
يجعلهم يستسلمون له ويعتقدون أن أي مقاومة له تعتبر مجرد جنون

عاد الوفد إلى مدينة الجزائر مبهوراً بقوة أمير البلاد وشعبيته التي تفوق الوصف، و سلموا

الرسالة الجوابية إلى الكونت وبعد قراءتها كتب فوراً رسالة جوابية قال فيها: بعد التحية
والتعظيم، قد وصلني من سموكم بيد رسولي السنت أيبوليت ومن الأفضل إجراء مباحثات

معكم شخصياً عن قرب ويمكن أن يكون في مدينة وهران، أراد الحاكم بعد هذه
الرسالة الاجتماع بالأمير في مقره ولكن تريزيل أقنعه بالعدول عن هذه الفكرة لأنها خطوة
تفسر بضعف الدولة الفرنسية، عدا عن التزلف للأمير عبد القادر وهذا فعل في غير
مصلحة فرنسا، فاقتنع الكونت وترك الأمر للجنرال تريزيل.1

حاكم وهران تريزيل ينقض معاهدة ديمشال:

وما إن غادر الكونت وهران حتى راح تريزيل يطبق خطة تآمرية مستفزة للأمير عبد
القادر، وفكر فوجد في عشائر الدوائر والزمالة ضالته فأخذ يغريهم بالأموال والحماية،
فأذعنوا والتحقوا بالسلطة الفرنسية، وكتبوا وثيقة استسلموا فيها إلى القوات الفرنسية،
وأصبحوا بموجبها رعاي فرنسيين، وبعد توقيع الاتفاق عّ ين الجنرال تريزيل مصطفى بن

إسماعيل قائداً عليهم ومحمد المرازي نائباً له، وجندهم جميعاً وسلحهم بأحدث الأسلحة
ووهبهم الرتب العالية والميزات المغرية ودخل على الأمير في أحد الأيم أربعة رجال من
مخابرات دولته وأعلموه بأمر تلك القبائل وذلك الاتفاق الخطير، فأرسل على الفور كتاباً

إلى مصطفى بن إسماعيل زعيم قبيلة الزمالة يذكره بالقسم الذي أقسمه على مبايعته عام
1832 ويذكره أيضاً بأنه مسلم جزائري عربي،
ثم طلب منه الرجوع إلى منازل القبائل قرب تلمسان ،ولم يكتف الأمير بإرسال هذا
الكتاب إلى الزعيم مصطفى بن إسماعيل والزعيم المرازي، وإنما بعث خطاباً إلى شيوخ
تلك القبائل وعممه جاء فيه: أما بعد، فليكن في علمكم جميعاً أنه طالما قد نصحناكم

ووعظناكم وبيّنا لكم ما يجب عليكم شرعاً أن تفعلوه أو تتركوه فلم تقبلوا ذلك ولم تلتفتوا

إليه، والآن بلغ السيل الزبى، فلابد أن ترجعوا عن غيكم وتسلكوا جادة الإسلام التي
مضى عليها آباؤكم، وتتركوا منازلكم التي أنتم فيها الآن وترجعوا إلى منازلكم الأولى بقرب
تلمسان، وإلا فلا تلوموا إلا أنفسكم لما يحل بكم من الانتقام بحول الله وقوته.2
ورفض هؤلاء عرض الأمير فاتصلوا بالجنرال تريزيل طالبين الدعم المادي والعسكري
والدعم الفرنسي وبعث بمطالبهم إلى الحاكم العام للموافقة على ما تم الاتفاق عليه بين

القبائل المتمردة والجنرال تريزيل، وعبر الحاكم العام عن تحفظه للجنرال وأرسل مبعوثاً


خاصاً للأمير يفاوضه حول هذه المسألة، لكن تريزيل أخبره غاضباً بأن قيلاً يعتبره مست
من منصبه في حال إصراره على رفض التعهد بحماية القبائل المتمردة على دولة الأمير عبد
القادر، فاضطر الحاكم العام للموافقة على اقتراحه، وجاء رد الأمير حاسماً في رسالة
أرسلها للحاكم العام جاء فيها: إن ما قام به حاكم وهران مخالف لنصوص معاهدة
ديمشال، التي تنص على أن هروب رعية أحد الطرفين يرده للآخر. إن الحكومة الفرنسية

ملزمة بأن ترد إ ليكل مذنب هارب ولوكان رجلاً واحداً فكيف بالعشيرة والقبيلة وعلى
هذا فإن قبائل الدوائر والزمالة من جملة رعيتي التي أحكم فيها بموجب شريعتي والآن
أبلغك البلاغ الأخير إنك إن رفعت الحماية عنهم فنحن على ما كنا عليه من المعاهدة

التي وقع عليها الاتفاق قديماً، وإلا فإي لا أستطيع مخالفة شريعتي في التخلي عنهم حتى
أنهم لو أدخلتهم إلى وهران لقلة دينهم فلابد أن ألاحقهم وأطالبهم بالرجوع عن خطئهم
فإن كنت لابد مصّراً على موقفكم فاطلب وكيلكم من عندي واختر لنفسك ما يحلو،
وميادين المعامع تقضي بيننا، ومسؤولية إهراق الدماء وإتلاف الأموال راجعة إليك والله
يخلق ما يشاء ويفعل ما يريد.
كان للغة المادة والمكاسب الدنيوية والمراكز الفانية والمغريت التي قدمها الجنرال تريزيل
لزعماء القبائل المتمردة أثرها، وجمع مصطفى بن إسماعيل الناس في إحدى الساحات
وخطب فيهم قائلاً: إن الفرنسيين سيقدمون لنا كل ما اتفقنا عليه من الهبات والأموال
والمواشي والحماية أيضاً والسلاح وإنني اعترفت خطياً برئاسة ملك فرنسا على البلاد
ومحاربة كل من يقف في طريق ذلك.
   إعان الِرب


دعا الأمير عبد القادر مجلس الشورى والمجلس العسكري لاجتماع طارئ فور التأكد من
هذه الأخبار، وبعد مناقشة هذا الوضع المستجد، أقر الجميع الخروج إلى المساجد وكان
يوم جمعة وبعد الصلاة اعتلى أمير البلاد المنبر، وخاطب الناس قائلاً: كلكم تعلمون أن


الله قال :" َ يأَيها ال ذينآَ منُوا قَاتِلُوا الذين يلُونَكم ِّ من الكفاِ ر" (الأنفال، آية : .)123
إن هؤلاء المحتلين لا عهد لهم ولا ذمة عاهدناهم فنكثوا، وإن تركناهم وشأنهم فلا نلبث
أن نراهم قد فتكوا بنا وهدموا هذا الصرح الإسلامي العريق من أساسه على حين غفلة،

وها هم قد خدعوا قبائل الدوائر والزمالة من ضعيفي الإيمان والنفوس وفقدان الشعور
بالكرامة.
أيها المسلمون قد قررنا العودة إلى المقاومة المسلحة فهلم جميعاً إلى الجهاد،ومن قتل منا
قضى شهيداً، ومن بقي حياً نال العز وثواب الجهاد.
ثم رفع سيفه وهزه ثلاث مرات وقال: إن كل حفنة تراب من أرض الجزائر هي أرض
محتلة، فصاح الرجال بصوت واحد: "الله أكبر" وصاحوا: إننا نعاهدك ي ناصر الدين
على الشهادة أو النصر.

خرج نداء الحرب من المسجد مدويً وعلا نشيد المقاومة يملأ الآفاق، وأسرع الكثير من
الرجال لتسجيل أسمائهم في الديوان العسكري، وتقدموا شيوخاً وشباباً تَهيداً للإنضمام
للجيش النظامي.


أ معركة المقطع وانهزام الجنرال تريزيل

في الأول من أيم سنة 1836م سار الأمير على رأس جي من ألفي فارس وألف من
المشاة لملاقاة الجنرال تريزيل الذي بدوره خرج من وهران بفرقة من الخيّالة وخمسة

الآف
جندي وأربعة مدافع جبلية وعدد كبير من المركبات الاحتياطية، تتقدمهم مجموعات من
الدوائر والزمالة، هذه المعلومات نقلت إليه عن طريق جهاز مخابرات دولة الأمير وأكدت
له أيضاً أن قوات العدو وصلت إلى تلال مدينة وهران نظ م الأمير قواته بأن جعل
البوحميدي قائداً للمشاة في الميمنة وبو شقور قائداً للميسرة، وجعل مكانه هو في الوسط
وخيّم السكون برهة من الزمن، ثم نودي الله أكبر، وملأت أصداء هذه الصيحة الروابي
والأحراش وإذ بهدير مدافع الفرنسيين يصّ م الآذان، وبدأت معر كة حامية الوطيس، كان
الفرسان المجاهدون من مهرة الرماة، فحاصروا العدو من كل الجهات وتغلبوا عليه.

وأخذ الفرنسيون المنهزمون يتسارعون إلى داخل الأحراش من دون تنظيم تاركين وراءهم
 أسلحتهم ومعداتهم الحربية وقتل منهم عدد كبير وكما ذكر المؤرخون أمثال الدوق أرليون
كان من القتلى الكمندان أودينو بن المارشال دون دي تريجو، مما أثر سلبياً في معنويت
الجنود الفرنسيين واحتل الأمير منطقة سيلة، وسيطرت قواته على جميع تلك النواحي،
وقد قام القتال يومين متتالين دون توقف وقد أجهد العط المجاهدين، إذ طال عليهم
القتال، لكن الله أكرمهم بالنصر، واستمر العدو منهزماً إلى وهران عن طريق أرزيو،
فخطط الأمير لملاقاته عند نهر هبرة المعروف بالمقطع، واختار عدداً من الفرسان الأشداء
وبينهم عمه علي بو طالب، ففاجأوا الجنرال تريزيل مع من تبقى معه من قواته قرب
النهر، فد ّ ب الذعر في القوات الفرنسية المنهزمة، وأخذ بعضهم يرمي نفسه في الماء لدى
سماعهم صهيل خيول المجاهدين، وخاض الأمير ومن معه لججاً من الدماء تحت وابل من
الرصاص، وأسرع عدد كبير من جنود العدو الغازي واستولى على سائر العجلات وما
فيها من ذخائر، وهكذا استمر المجاهدون على الرغم من التعب الشديد من تَشيط
المنطقة .     
ولم يجد الجنرال تريزيل مسلكاً يسلكه هارباً منهم فاندفع مع من تبقى معه من القوات إلى
ساحل البحر يرجو الخلاص، ولكن وعورة المنطقة والجهل بطبيعتها حالت بينه وبين
الانسحاب المنظم، ودبّت الفوضى بين جنوده، وغرقت أكثر العجلات بمدافعها في تلك
المخاضات الخطرة، واقتحم أكثرهم سبيل النهر تاركين وراءهم قتلى وجرحى كثيرين، وبدأ
الليل يجي بالعتمة وأخذ الظلام المرعب الممزوج بهدير المياه وأصوات الرصاص يملأ
الفضاء الرحب، وفي سرعة الوميص، بعد قليل من الراحة، عادت للمجاهدين حماستهم
للقضاء على فلول العدو المنهزم، وكان الأمير في المقدمة وتكللت جميع خططه بالنجاح،

وتَت هزيمة الجنرال الذي وصل مدينة وهران ليلاً بأسوأ حال متخفياً مع قليل من ا لجنود
المجاهدين الذين استشهدوا في هذه المعركة "المقطع" الآغا قدور بن بحر، ومن أعيان

الجي العربي خليفة بن محمود الذيكان و كيلاً في مدينة أرزيو، والسيد محمد بن الجيلاي

الورغي والسيد محمد المشرفي الذيكان أيضاً من قادة المجاهدين طلب ناصر الدين الأمير
عبد القادر أن يتم دفن هؤلاء المجاهدين وفق الشعائر الإسلامية وبعد ذلك اتجه إلى
نواحي سيك وبعث بالأسرى والغنائم إلى العاصمة "معسكر" ثمكتب إلى نّ وابه في مليانة
والمدية يبشرهم بما تحقق من الانتصار وبهذه المناسبة نظم له ابن عمه علي بو طالب
الذي رافقه في هذه المعركة، وكان إلى جانبه قصيدة مطلعها :
رميت ي كهف الأنام للعُلى
و كل باغ ُ سقته للردى

بُشرى لك الفتح الذي أ حرزته
هنئت بالنصر وإدراك المنى
ولما بلغ حاكم مدينة الجزائر المحتلة خبر هذه المعر كة أصدر فوراً أمره إلى الجنرال تريزيل

بالتخلي عن منصبه كحاكم لمدينة وهران، وعّ ين مكانه الجنرال دو لورانج وقال أحد
المؤرخين إثر هذه المعارك التي خسر فيها الفرنسيون الآفاً من الجنود بين قتيل وجريح: إن
بعض نواب المجلس في باريس أعلن أن احتلال الفرنسيين للجزائر هو من الأعمال
الشائنة ا لتي ُتضر بسمعة فرنسا  .
وقال تيري رئيس الحكومة: إن غزونا الجزائر عملية خاسرة إلى الآن لم تنجح، ولا أقول
ذلك انتقاداً لمقدرة قواتنا العسكرية ...الخ
وبعد انتهائه من الكلام علا ضجيج النواب في المجلس، واختل نظامه، ثم اجتمعوا مرة
أخرى بعد استراحة واتخذوا قرارات منها عزل الكونت دو رولان حاكم مدينة الجزائر
وتولية المارشال كلوزيل مكانه، والهجوم على عاصمة الأمير معسكر واحتلالها.3

ب الأمير يفرض حصاراً على المستعمر ويهاجم مدينة الجزائر :

أرسل الأمير من عاصمته لخليفته بمليانة السيد محيي الدين بن علال وأمره بأن يجمع
جيوشه ويهاجم مدينة الجزائر، فانطلق على رأس خمسة الآف مقاتل فقاموا بتدمير قرى

ومزارع الكولون بمتيجة وقتلوا منهم الكثير ووصلوا حتى أبواب مدينة الجزائر، ثم عادوا
محملين بالغنائم والأسرى، كما أمر خليفته في تلمسان البوحميدي أن يتحرك بجيشه
ويشاغل وهران، وفي أيم استطاع الأمير أن يفرض على المدن التي يحتلها الفرنسيون
ً
حصاراً ، خانقا وشارك بنفسه في حصار مدينة الجزائر وكان الأمير يعمل على تحقيق
مقولته بأنه لن يسمح للطير بالتسرب إلى المدن التي يحتلها الفرنسيون، حتى أضحى
هؤلاء الغزاة مغلولي الأيدي وفي أشد الضيق كأنهم أسرى داخل حصونهم يحاولون
التخلص من الحصار بشتى الوسائل.

ج معركة مدينة "معسكر" عاصمة الأمير :

وصل الجزائر الجنرال كلوزيل مصحوباً بالدوق دورليان ولي العهد الفرنسي، وأحضر معه

إمداداً هاماً وفي الحال قرر التوجه لوهران واحتلال عاصمة الأمير، وعين الأمير عسكري
في الوقت المناسب بتوجه العدو ،وجمع الأمير المجلس العسكري ومجلس الشورى وعقد
جلسة عمل قال فيها: لقد بلغني أن المارشال الجديد يستعد لاحتلال هذه المدينة ظناً
منه أنه بذلك يكسر شوكة قدراتنا ويضعف معنويتنا، وباعتبار أن مدننا من أجمل مدن
العالم، وبصورة خاصة تلمسان ومعسكر هذه المدينة الرائعة التي تحتل موقعاً جغرافياً مميزاً،
فإذا أراد العدو الوصول إليها سيصل منها بعد قطع مسافات واسعة من السهوب
المتعرجة والوعرة المسالك. وكما علمت أن إمدادات ضخمة وصلت كلوزيل، وأنه مصمم

على دخول عاصمتنا، وأنا لا أريد حرباً تقوم بداخلها تزهق فيها أرواح السكان الآ منين
وحامية حصن سعيدة لا تستطيع الصمود أمام اثني عشر ألف جندي مدرب، لذا أقترح
ترك كلوزيل بداخلها ولكن قبل ذلك نخليها من السكان، فإذا دخلها وجدها خالية وإذا
طال احتلاله لها قال أحد أعضاء المجلس مجيباً الأمير: حينذاك نعد هجوماً كبيراً على
مدينة الجزائر لنخرجهم منها ونستنسخ فرصة ابتعاد عشرات الآلآف من الجنود الذين
كانوا يحمونها مع قادتهم سأل آخر: ما الغاية من هذه الخطة أجاب الأمير:
أولا : 

  المحافظة على السكان من شيوخ وأطفال
ثانيا :

 إنقاذ هؤلاء السكان من ويلات الحرب داخل المدينة، والتي ستكون حرب شوارع

تهدم أثناءها الدور وتخترق المتاجر ومن لم يمت بقنابل ا لمحتلين سيموت من
أصواتها التي تسبب الأذى لآذان الأطفال وربما تصيبها بالصمم، هذا إذا نجوا من الحرائق
والقتل برصاص المحتلين ,
ثالثاً: إذا جمعنا قواتنا وحاولنا منعهم من الوصول إلى هذه المدينة فشلنا لا سمح الله، بهذه
الحالة ألا يخرج كل مسؤول منا أهله وعائلته منها قبل دخول الأعداء، ويبعدهم عن
ساحات القتال إلى أمكنة آمنة؟ كما هي العادة في مثل ظروف كهذه الحالات، فأنا
شخصياً أشعر بأن كل أم مؤمنة من هذا الشعب هي أمي، و كل أخت هي أختي، وكل
أب هو أبي وأخي، فالذي أريده لعائلتي أريده لكل عائلة في هذا الوطن.
 

رابعاً

 إذا جهزنا أنفسنا للدفاع عن المدينة والوقوف في وجه اثني عشر ألف جندي
مهاجمين، واستطعنا الانتصار عليهم وإجبارهم على الانسحاب بعد أيم، أو ربما أسابيع،
ولاشك أن كلوزيل سيعيد الكّرة للمّرة الرابعة و كم ستكون أعداد الخسائر من الشهداء،

وما سيكون حجم التدمير لمدينتنا، وبحال فشلنا في إنقاذ مدينتنا ودخلها كلوزيل منتصرا
بعد تكبيدنا خسائر فادحة ماذا نكون قد ربحنا؟ فخيم الصمت على المجلس ثم بعد
دقائق رفع أكثر الرجال من أعضاء المجلس أيديهم بالموافقة على الخطة.

وبسرية تامة تم نشر الأوامر بإخلاء المدينة وبطريقة نظام البريد المتحرك، يعني كل جار
يخبر جاره، وكل زميل يخبر زميله وأمسك الأمير بيد والدته يساعدها العربة التي كانت
أمام داره، فسارت بجميع أفراد عائلته ليلاً نحو قصر كاشرو، وهو قصر قديم شيد في
غابة   وهي أرض ملكاً لعائلة الأمير منذ غابر الأزمان وتقع على بعد أميال من مدينة
معسكر بناه أجداد سيدي محيي الدين والد الأمير منذ قرون، كان بناؤه على الطراز
الأندلسي عدد غرفه ثلاثة وأربعون غرفة، وعدد من الحمامات، وخارجه إسطبلات
واسعة للخيول، وبئر ماء وكان لا زال صالحاً وماؤه عذب، واستضافت عائلة الأمير في

هذا القصر عدداًكبيراً من الأقرباء والجيران وصل كلوزيل إلى مشارف مدينة معسكر بعد
ثلاثة أيم من السير، ولم يصادف أي كائن في طريقه أو صعوبات كبيرة ودخلت قواته
المدينة فوجدتها خالية من الحركة، وكأنها مدينة أشباح، كانت المتاجر مغلقة وعندما
فتحت بالقوة وجدت فارغة، لا أسواق لبيع الخضار والفواكه ولا مخابز ولا مطاحن
تعمل، والمخافر خالية من الحرس، حتى المياه كانت مقطوعة وكانت قوات كلوزيل تكاد
تسقط من الإعياء والعط والجوع و كان يأمل ويم ّ ني جنوده بغزو المخابز وحوانيت
الأطعمة فور وصولهم المدينة، وقبل دخولهم في معارك لاحتلال المدينة وإجبار الأمير عبد
القادر على الاستسلام وخروجه من عاصمته إما أسيراً أو قتيلاً، ولكن كلوزيل لم يجد
أحداً يقاتله في ا لمدينة، وكما يذكر المؤرخون أن اليهود فقط من سكان المدينة رفضوا
تركها، وعندما دخل كلوزيل أسرعوا بالمثول بين يديه وقدموا الطاعة ولكن لم يقدروا أن
يفيدوه بشيء، ولم يتمكنوا من تهدئة روعه من هول المفاجأة لأنهم كانوا أعجز من معرفة
فكر الأمير وما كان يخطط له، فشاركوا كلوزيل في شكوكه الذي لم يأمر جنوده بدخول

أي دار خوفاً من مفاجأة قاتلة تنتظرهم بداخلها، ولم ينم كلوزيل تلك الليلة وهو يذرع
أرض غرفة أحد المخافر التي اختارها وهو يفكر ويتساءل عن سر فراغ المدينة من
السكان وظن أن هناك مخططاً لإفناء قواته، فأخذت الشكوك والهواجس تَلأ رأسه، وفي

صباح اليوم التالي أمر جنوده بالانسحاب من المدينة والعودة بما بقي معهم من المؤن
الغذائية التي كانوا يحملونها من وهران، واعتبرها كافية حتى وصولهم إلى المقّر، انسحب

آخر جندي من معسكر يجّر أذيل ا لخيبة ويرتجف من البرد وغزارة الأمطار
وصل الأمير أخبار عودة قوات كلوزيل من حيث جاءت وعلى نفس الطريق و كانمختبئا
داخل الأدغال على المرتفعات المحيطة بالطريق، ولم يكن باستطاعة كلوزيل اكتشافها،
وعندما شاهد الأمير بمنظاره الحربي جي العدو يسير ببطء يجر عرباته وخيوله المثقلة
بالعتاد وانتظر حتى وصل أمامه آخر جندي، وأمر القائد مصطفى بن التهامي
باصطحاب كوكبة من الفرسان ليخبروا سكان مدينة معسكر بزوال الخطر ويساعدهم
على العودة إليها حّ ذر الأمير المجاهدين من إطلاق أي رصاصة على جي العدو، ثم
أمر بالتحرك داخل الأدغال بهدوء، والتخفي بأغصان الأشجار، كان جي العدو يسير
على الطريق وفوقه على المرتفعات، الآف المقاتلين يسيرون بسرعة أكبر لقطع الطريق
عليه، ولم يأمر أمير البلاد بالهجوم إلا بعد أن عّم الظلام، حينذاك انهال الفرسان على
الجند الذين فوجئوا بالهجوم فأخذوا يضعون المتاريس يختبئون وراءها ويطلقون النار على
غير هدى، فدبت الفوضى بينهم، فوصلت أخبار الهجوم إلى كلوزيل الذي كان يسير في
مقدمة جيشه، فعاد ونظم صفوفه، ولكن قوات الأمير كانت أسرع بالهجوم عليه من
مواقعها في أعالي الهضاب غير مبالين بقنابل المدفعية وأصوات الرصاص، فهجموا على
عربات المدفعية واستولوا عليها والتحم الفريقان حتى منتصف النهار وكثر عدد القتلى في
جي كلوزيل فأمر بالانسحاب، فكان جنوده يفرغون العربات من العتاد والذخيرة
ويضعون مكانها جرحاهم، ويفرون نحو طرق وعرة، واكتفى الأمير بهذا الانتصار والدرس

الذي كبد فيه كلوزيل خسائر فادحة، وكانت قواته بأشد الحاجة إلى الراحة، فعاد بها إلى
المخيم، فوصله ليلاً، و كعادته قبل دخول خيمته توضأ وصلى جماعة صلاة العشاء بعد
سماعه صوت مؤذن المعسكر، وسجد شكراً لله  وفي اليوم التالي بعد صلاة الفجر أمر بالاستعداد للرحيل والعودة إلى العاصمة، فأطلقت
المدفعية كالعادة ثلاث طلقات إشارة للرحيل والعودة إلى العاصمة، ولبث الأمير بينهم
برهة من الوقت ترفع أثناءها أعمدة الخيام وتحمل الذخائر ويمتطي الفرسان صهوات
جيادهم، وعادة الأمير دوماً بعد هذه الاستعدادات الخروج من خيمته والقفز على جواده
ثم يثب به وثبتين، ثم يتقدم الجي بالمسير، عمت الأفراح بالمدينة عندما وصلت أخبار
بقدوم طلائع الجي الجزائري، وظهر الفارس المنتصر إنه ناصر الدين الأمير عبد القادر
ابن محيي الدين على أبوابها، فعلت أصوات النساء بالزغاريد والرجال بصوت واحد "الله
أكبر" واصطف رجال المراسم بألبستهم العسكرية بعودة أمير البلاد إلى عاصمته.1

د توالي المعارك بين الأمير والمارشال كلوزيل :

علم الأمير عبد القادر بواسطة عيونه أن المارشال كلوزيل قرر الهجوم على تلمسان وأنه
أرسل عملاءه من قبائل الدوائر والزمالة لفتح الطريق له، فقرر الأمير تطبيق نفس الخطة
التي طبقها في مدينة معسكر، وذلك بإخلائها من سكانها الذين غادروها بما خف وزنه
من الأثاث والمتاع، ووصل كلوزيل تلمسان يوم 1836 /1 /13م على رأس جي
ضخم من 11000جندي فوجد الأمير في استقباله ودارت المعركة من الفجر إلى
الزوال، وخرج الذين كانوا متحصنين بالقلعة وفتحوا أبوابها للعدو يوم 12يناير فمكنوه
من احتلال المدينة، وفرض كلوزيل ضريبة باهظة على السكان حتى على عملائه وذلك
قصد تغطية نفقات الحرب واضطر الناس لبيع مجوهرات نسائهم لدفع الضريبة وكان المرابي
اليهودي لازاري وسيطاً يشتري المجوهرات بأبخس الأثمان و كانت خسارة العائلات
مضاعفة وشارك في هذا النهب الضابط المملوكي التركي العميل يوسف، فضج الناس من

ذلك، وقد كتب الضابط بيلسييه دي ريينو على ذلك فقال: كل هذا تم باسم فرنسا،
لقد كان الجي يشعر بالعار والخذلان ،1وبقي الأمير يترصد خروج كلوزيل من تلمسان،
وخرج بعد أن ترك حامية بها قاصداً وهران ووجد جي الأمير أمامه ودارت معارك بين
الطرفين لمدة عشرة أيم وهزم كلوزيل ولم يتمكن من الوصول إلى وهران فعاد إلى تلمسان
وتحصن بقلعتها وبقي بها أيماً، ثم حاول الخروج منها فالتقى به الأمير وحاربه وألحق
بقواته خسائر كبيرة وصمم كلوزيل على التقدم سالكاً طريقاً آخر عبر الساحل فوصل
مرسى رشكون وتحصن بها فحاصره الأمير مدة شهرين كاملين قضاها في مناوشات قتالية
وعندما يئس من التقدم بقواته براً استنجد بنائبه فأرسل له مراكب نقلته مع جيشه بحرا
 بعد أن حمل ما أمكن حمله من العتاد
غادركلوزيل وهران إلى الجزائر بعد أن ن صب الجنرال دار لانج والياً عليها والجنرال بيريجو
قائداً على الجي .
كانت قبائل حجوط مستمرة في حملاتها على الكولون والمراكز العسكرية في المتيجة،
والباي العميل ابن عمر هرب من مليانة وهو يعي بالجزائر، والعميل محمد بن حسين
الذي عيّنه الحاكم العام بابا التيطري ثار عليه المواطنون فهرب وتخفى في  مطامير
للحبوب، فأرسل كلوزيل قوة إلى المدية ضمن حملة دامت 12يوما من 3 /29إلى /9
1836 /4م، فاحتلها وترك عليها العميل الباي بن عمر وتركت له كمية من السلاح
والعتاد لكن هذه الحملة فشلت فما إن عاد الجي للعاصمة حتى ثار سكان مدية على
الباي العميل واعتقلوه وساقوه مكبلاً إلى الأمير، خرج الجنرال بيريجو من وهران على رأس
3000جندي نحو تلمسان وتَكن من ربط الصلة بهذه القوات بين المدينتين، وعلم
الأمير فانتقل إلى ندرومة ليتمكن من مراقبة تحركات العدو، واتصل بالقبائل التي كانت
تقيم بوادي تافنة ورتب قواتها ووزعها على مواقع اختارها، ثم هاجم العدو بغتة يوم


نيسان أبريل وألحق به خسائر كبيرة اضطره إلى أن يتخذ خطة دفاعية على شكل
مربعات متجهاً إلى وهران ،1وكان الأمير يقوم بالهجوم على أطرافها يقتل ويأسر ولم
يصمد المدفعيون الفرنسيون للهجوم فتخلوا عن بطاريتهم التي غنمها المجاهدون وبعد عناء
كبير تَكن الجنرال من الوصول إلى وهران ولكن بعد خسائر كبيرة في الجنود والعتاد.
بعد هزيمة الجنرال بيريجو قررت الحكومة الفرنسية إرسال 3000جنديً وعلى رأسهم
بوجو إلى وهران لمحاربة الأمير وفي 1836 /7 /1م توجه إلى تلمسان لفك الحصار عن
حاميتهم المحاصرة من الأمير، وعندما التقى بالأمير دارت معركة في واد سكاك غير
متكافئة يوم 1836 /7 /6م هزمت فيها قوات المسلمين، وتَكن بوجو من فك حصار
تلمسان وربطها بوهران، وعاد لها فأخبر باريس بانتصاره.
قام الأمير بجمع جموعه وفرض حصاراً طويلاً على تلمسان دام تسعة أشهر، لدرجة أن
كافينياك قائد الحامية الفرنسية بها قال: كنت أشتري القط الواحد للأكل بأربعين فرنكاً.
ويُروى أن الأمير قرأ صحيح البخاري في هذا الحصار أربع مرات وفي أثناء الحصار علم
أن الأتراك بالمدية قد تَردوا وأثاروا الفتنة، فترك قيادة الحصار لابن عمته مصطفى بن
التهامي، وتوجه على رأس كوكبة من فرسانه إلى المدية فأنزل العقاب على رؤوس الفتنة
وأعاد النظام لها وولى عليها أخاه مصطفى بن محيي الدين ثم عاد إلى تلمسان وهكذا
تَكن الأمير بعبقرية عسكرية وتنظيمية فذة من ومواجهة كل هذه المشاكل وإيجاد الحلول
لها، كان يقطع مئات الكيلومترات حاثاً القبائل على الصمود والتنظيم، ويقيم تحت
الخيمة أشهراً محاصراً للعدو دون كلل .
وقد لخص المؤرخ الفرنسي ألكسندر بالمار هذا كله فقال: لقد تَكن الأمير عبد القادر
من إعادة بناء قوته التي اعتراها التفكك والتلاشي ثلاث مرات ::
الأولى: عندما استولى الجي الفرنسي على عاصمته .
الثانية: عندما غزا تلمسان .
الثالثة: بعد معركة سكاك. وكل حادثة من هذه الحوادث كانت كافية لإسقاط أعظم
سلطان، ومع ذلك فإنها لم تؤثر في أمره، ولم تحصل منه فرنسا على طائل. ولهذا فإي
أقول: لله در هذا الرجل العظيم الذي كانت سياسته العجيبة لا تفارق ذاته طرفة عين،
ومن هنا نعلم أنه كان في أقرب وقت يسترجع ما يفقده من قوة.
كان الأمير عبد القادر في حروبه يهتم بأخلاق الفرسان ويأمر جنوده بعدم التمثيل
واحترام الأسرى، فقد كانت العادة عند القبائل في تلك الأصقاع قطع رأس العدو
وتقديمه على حربة للزعيم أو القائد، وكان لكل رأس مكافأة، ولكن أوامر الأمير عبد
القادر منذ توليه قيادة حكم البلاد كانت تقضي بأن يجلد كل مقاتل يحمل رأساً،
ووضعه
وبتقديم مكافأة مجزية لكل من يأتي بأسير حياً وهذا قرار اتخذه منذ اليوم الأول ووضعه
ضمن قوانين الجي و كانت تعليماته إلى كل مقاتل يأسر جنديً فرنسياً أن يحسن معاملته
وكان هذا القرار من طرف واحد.
أما العدو فقد كان يقوم بأعمال يندي لها جبين الإنسانية بالنسبة للأسرى والمواطنين
على حد سواء، من هذه الأعمال قطع رأس الأسير أو جذع أذُنه و كانت تُعطى علاوات
للجي، منها علاوة 10فرنكات لكل جندي فرنسي عن كل أذن لأسير جزائري. ولم
يبطل هذا القانون إلا في عهد نابليون الثالث. كتب أحد الجنود الفرنسيين رسالة إلى
قائده الجنرال مونتياب جاء فيها: قطعت رأسه وعصمه الأيسر وجئت إلى المعسكر أحمل
رأسه على حربتي ومعصمه معلق بسوار بندقيتي تلك هي الطريقة التي يجب أن نحارب بها
العرب، يجب ترحيل جميع العرب من هنا إلى جزر الماركيز، يجب سحق من لا يركع تحت
أقدامنا.

  مقاومة أحمد باي بنواحي قسنطينة :

عندما استقر الأمر لأحمد باي في مدينة قسنطينة جمع أعضاء الديوان وتباحث معهم في
المسألة المتعلقة باعتراف فرنسا بايً على أن يواصل دفع الجزية إليها، فكان رد جميع
أعضاء الديوان هو الرفض لأن قسنطينة تابعة لباشا الجزائر وتَتثل لأوامره وهي بدورها
تتمثل لأوامر إسطنبول ولهذا لابد من الكتابة إلى السلطان محمود الثاي والحصول على
موافقته، وفي هذه الأثناء علم أحمد باي أن القائد الفرنسي في الجزائر قد عزله من منصبه
وعّ ين في مكانه سي مصطفى شقيق باي تونس، وبذلك صارت قسنطينة تابعة لتونس
حسب رأي الجنرال كلوزيل الذي كان يحكم الجزائر وهذا هو الذي دفع بالباي أحمد أن
ً


يعين بن أي أمين الخزينة، ويضرب النقود باسمه عيسى خزناجيا 

وعندما تَكنت فرنسا من ميناء عنابة بدأت تهدد أحمد باي بالإطاحة به وأرسلت جيشاً
قويً بقيادة كلوزيل للقضاء عليه ولذلك جند أحمد باي 1500رجل من المشاة
و 5000من الفرسان واستعد لمواجهة الجي الفرنسي في وواد الكلاب واد الأحد الذي
يوجد تحت سيدي مبروك، لكنه انسحب إلى مدينة قسنطينة عندما شعر أنه غير قادر
على محاربتهم لأن جيشهم كان أقوى، وبناء على ذلك استدرجهم الباي أحمد إلى المدينة
ثم هاجمهم من الخلف ومن داخل المدينة وألحق هزيمة بالفرنسيين الذين قهرتهم الطبيعة
حيث إن الأمطار الغزيرة التي تهاطلت في تلك الأيم قد ساهمت في التأثير سلبياً على
خطط الفرنسيين واعترف الحاج أحمد باي أنه كان على استعداد للتفاوض مع الجي
الفرنسي والاحتفاظ بمرتبه كباي، ولكنني عندما رأيت أنهم جاءوا بباي ليستبدلوي وأكثر
ليهينوي إذ اختاروا لهذا الغرض مملو كاً من تونس، ولم أعد أرى شيئاً آخر غير المقاومة
النشيطة، وهو ما فعلت وقد كان علي أن أفعله من قبل ،1وبدون شك فإن هذه الهزيمة
الثقيلة التي ألحقها الحاج أحمد باي بالفرنسيين في عام 1836م هي التي دفعت الجي

الفرنسي إلى إعداد جي ضخم يتكون من 16000جندي يقودهم كبار جنرالات
فرنسا المعرفون بقدراتهم القتالية تحت قيادة دامريمون وفي اليوم الأول من شهر أكتوبر
1837م ابتدأ الجنرال دامريموت قائد الحملة الفرنسية ورئيس أركانه بيريقو العمليات
العسكرية ضد قوات أحمد باي وذلك انطلاقاً من سطح المنصورة المطلة على مدينة
قسنطينة. وقد حاول أحمد باي أن يعتمد نفس الخطة التي ساعدته على الانتصار في المرة
الأولى وهي مواجهة الجنود الفرنسيين من داخل المدينة المحصنة وضربهم من الخلف، لكن
هذه المرة لم تنجح الخطة لأن عدد جنود الفرنسيين كبير، وتَكنوا في هذه المرة من معرفة
فجوة ساعدتهم على التسرب إلى المدينة واحتلال الثكنة الكبيرة التي كانت توجد
بالمدينة، وعندما رأى ابن عيسى خليفة أحمد باي والمسؤول عن الدفاع، أن الفرنسيين
تسربوا إلى المدينة وأن المقاومة أصبحت غير مجدية أمر السكان أن يخرجوا من المدينة.
وقد استشهد في هذه المعارك محمد بن البجاوي قائد الدار، وذلك بالإضافة إلى
شخصيات كبيرة في المدينة، ولكن الشيء الذي ينبغي التذكير بة هنا هو أن الجنرال
دامريموت ورئيس أركانه بيريقو قد لقيا حتفهما في بداية المعارك حيث أن الباي أحمد قد
صوب مدفعه الكبير الموجود في باب الجديد نحو مكان تجمع القادة الفرنسيين وتَكن من
إطلاق النار على الفرنسيين وقتل رئيس العمليات العسكرية ورئيس أركانه وقد خلفه في
منصب القائد العام للقوات الفرنسية الجنرال فالي الذي استولى على المدينة فيما بعد،
لكن الجنرال كومب مات هو الآخر في معارك قسنطينة وكذلك زميله الجنرال كارامان
الذي توفي بعد بضعة أيم.
وبالنسبة للباي أحمد فإن هذا الاحتلال لمدينة قسنطينة سنة 1837م ما هو إلا بداية
للمقاومة الجزائرية ضد قوة الاحتلال الأجنبية وبالفعل فقد اجتمع بقادة المقاومة وأعد
معهم خطة تقضي بقطع جميع الاتصالات مع مركز القوات الفرنسية بمدينة عنابة، لكن
أحد مساعديه المقربين بو عزيز بن قانة فقد سلطته في الصحراء لصالح فرحات بن

سعيد، اعترض على خطة الباي أحمد واقترح عليه أن لا يبقى الجي في قسنطينة وإنما
يتوجه إلى الصحراء حيث يوجد فرحات بن سعيد الذي أصبح يعمل مع الأمير عبد
صفه
القادر الذي اعترف به شخصياً على قبائل الصحراء وخوفاً من وقوع انشقاق في
وافق الباي أحمد، وأثناء ذهابه إلى الصحراء بعث إليه الفرنسيون رسالة يطلبون فيها منه
الاستسلام.
ومع أن فرحات بن سعيد كان يعتبر هو الخليفة المعتمد من طرف الأمير عبد القادر على
الصحراء، فإنه كان ينوي الذهاب إلى قسنطينة والتحادث مع أحمد باي أو الفرنسيين،
إلا أن ذهاب أحمد باي للصحراء حسب نصائح بن قانه دفع بسعيد بن فرحات أن
ينضم إلى الفرنسيين ويتحالف معهم مقابل أن يعترفوا به كشيخ للعرب وأن يمدوه بجي
قوي ليحارب أحمد باي وبن قانه ولكن الفرنسيون رفضوا اقتراحه هذا وطلبوا منه أن يقوم
بهجوم على أحمد باي ويأتيهم برأسه وآنذاك يعترفون به وبالفعل دخل مع أحمد باي في
معركة حامية الوطيس ضد أعدائه ولكنه انهزم وهرب إلى وادي سوف. ثم إن مرض أحمد
باي وعدم قدرته على جمع وتوحيد الصفوف لمحاربة الفرنسيين وتَركز الجي الفرنسي في
كل المناطق، قد أنهكت قواه وأجبرته على التفاوض مع فرنسا والإستسلام لها يوم 5
جوان 1849م. كما هو معروف رفض التوجه إلى فرنسا ومات بمدينة الجزائر سنة
1850م وتم دفنه بزاوية سيدي عبد الرحمن.
وباختصار، فإن أحمد باي قد قاوم الفرنسيين لمدة 18سنة وقد ظن الفرنسيون أنه
ضعيف نظراً لعدم وجود قبيلة تحميه وتشد أزره لكنه فاجأهم وتحدى جبهة الخونة في
الداخل وجبهة باي تونس وقاوم حتى النهاية.1
وهو صاحب المقولة الشهيرة: لا وطن لي إلا الجزائر، ولا دين لي إلا الإسلام، ولا لغة لي
إلا العربية.

وهو صاحب المقولة الأخرى: إذا كان المسيحيون بحاجة إلى بارود سنزّ ودهم، وإذا نفذ
خبزهم، سنقسم خبزنا معهم، ولكن حتى وإن بقي أحد منا على قيد الحياة لن يدخلوا
قسنطينة.
لاشك أن أحمد باي من الشخصيات المتميزة سياسياً وعسكريً إلا أنه عدم دخوله تحت
زعامة الأمير عبد القادر أضعفته وأضعفت موقف المقاومة، وبعد أن توحدت معظم
قبائل ومدن الجزائر وأجبرت الدولة الفرنسية على الاعتراف بالأمير عبد القادر، وتبرم معه
المعاهدات الرسمية وترسل الدول الأجنبية قناصلها، وعرض الأمير عبد القادر مرات
عديدة على أحمد باي بأن ينضم إليه ويتحالف معه كان عليه أن يستجيب لوازع الوحدة
وتوحيد الصفوف ضد المحتل الفرنسي.
كان الأمير عبد القادر يحترم أحمد باي ولم يكن له أي خصومة أو بغضاء، وأشاد بجهاد
أهالي قسنطينة، والشيخ ابن البجاوي ومن معه من العلماء والأبطال والذين أبوا إلا
الموت تحت أسوار بلدتهم على الحياة تحت سلطان فرنسا.

 اختراق المخابرات الفرنسية لدولة عبد القادر: 

استطاع ليون روش عميل المخابرات الفرنسية أن يخترق دولة عبد القادر وأن يصل إلى
مكان مقرب من الأمير ويصبح مترجمه الخاص ولعب دوراً خطيراً تحت قناع الإسلام
ويعتبر حلقة من حلقات الاستعمار في اختراقها للجزائر، فمن المعروف أن الحملات
الاستعمارية الكبرى، باتجاه العالم الإسلامي، كانت تسبقها حملات مركزة للجوسسة
للتعرف على الأرضية التي سيتم احتلالها، وكان من العادة أن يقوم بالمهمة مجند في أجهزة
المخابرات لديه خبرة واسعة بالأرضية وأكبر مثال على هذا الجاسوس بوتان الضابط في
الهندسة العسكرية الذي أرسله نابليون بونابرت إلى الجزائر عام 1808م وقام بإجراء
دراسة دقيقة والتي على أساسها تم احتلال الجزائر، لكن بعد الغزو العسكري سرعان ما
اكتشف المحتل أن هناك مساحات كبيرة لم يتمكن من غزوها، فاحتلال الشعوب يقتضي
التعرف بدقة على جغرافيتهم النفسية وخريطة عقولهم، وهكذا بدأت المرحلة الثانية من
حركة الجوسسة الاستعمارية وذلك بإرسال رجال ونساء حتى يتغلغلوا في الشعوب
وينفذوا إلى أعماق النسيج الاجتماعي ويقدم التقارير الدقيقة والوافية عن تجربتهم في
الداخل وستظل أسماء مثل ليون روش بارزة في مسيرة حافلة لهؤلاء الذين اخترقوا وتغلغلوا
إلى أعماق المجتمع، فلم تكن التقارير العسكرية والأمنية كافية للسيطرة على هذه
المجتمعات، بل كان من الواجب النفاذ بعمق في ألياف الحياة الإجتماعية والدينية
والتجوال في دروسها والدخول إلى عمق أعماقها، فليون روش الجاسوس، كغيره من
الجواسيس ندبته الحكومة الفرنسية في بداية غزوها للجزائر ليكون جاسوساً على الأمير
عبد القادر وأوعزت إليه أن يتظاهر عنده بالإسلام، وأن يتوصل أن يكون موضع ثقته
ومحل أمانته، ففعل ذلك ونجح وأقام معه حوالي سنتين، كان خلالها يبعث بكل تفاصيل
دولة الأمير عبد القادر إلى حكومته الفرنسية، ولم يكتف بهذا فقط، بل تخصص في
نشب الفتن بين الأمير عبد القادر والقبائل الأخرى، فكان هدفه إضعاف قوة المسلمين
وتشتيتها من حول الأمير.

أ قصة دخول ليون روش الجزائر :

ولد بفرنسا بمدينة غرونوبل في يوم 27سبتمبر 1809م وبعد وفاة أمه كليمونتين شمبانو
ذهب عند عمته وبدأ دراسته الثانوية في ثانوية غرونوبل ثم أكملها في ثانوية تورنون ونال
شهادة البكالوري عام 1828م وبعدها بدأ دراسته الجامعية في جامعة غرونوبل في
تخصص الحقوق وبقي يدرس لمدة ستة أشهر فقط، ثم رحل إلى مرسيليا بعد أن أرسله
أبوه للعمل هناك مع تاجر صديق له، فعمل معه وسافر بين فرنسا وشرق أوروبا، وزار
العديد من دول شرق أوروبا و كان عمره آنذاك يقارب العشرين عاماً، كان أبوه الفونس
لفرنسية
محلقاً بخدمات العتاد العسكري في الجزائر منذ الحملة ا 1830م واهتم بالعمل
الفلاحي في ضواحي الجزائر واقتطعت له مزرعة في سهل متيجة مساحتها حوالي 200
هكتار و كان يقوم بخدمتها بعض الجزائريين، ونظراً لتعدد مهامه، كتب إلى ابنه يطلبه
للحضور ليساعده في الفلاحة بعد أن غاب عنه مدة طويلة وجاء إلى الجزائر بعد
انقطاعه عن والده لمدة أربع سنوات وعاش في مدينة الجزائر واختلط بالأهالي، الجزائريين
والأتراك والكراغلة والحضر وتعلم اللغة العربية على يد رئيس مجلس قضاء الجزائر الشيخ
عبد الرزاق بن بسيط وتَكن من اللغة العربية وتحدث بها بطلاقة وتعرف على العلماء
والقضاة وأعيان المجتمع وعرض نفسه كمترجم بين الفرنسيين والأهالي وكان تعلمه للغة
أمر مدروس ووسيلة مهمة للاختراق الاستخباراتي.

ب مطية الجوسسة :

جعل من تفانيه في تعلم اللغة العربية والدخول في الإسلام مطية للجوسسة التي كان قد
كلف بها من قبل .

كانت المخابرات الفرنسية أوكلت إليه أمر مراقبة الأمير عبد القادر ورسمت له الخطط
المناسبة واستغلت المخابرات الفرنسية معاهدة التافنا التي جاء في بندها الرابع على
السماح للمسلمين بالعي أينما أرادوا، ولهم الحرية المطلقة في الانتقال من دولة الأمير
إلى الأماكن التي يحتلها الفرنسيون وكذلك يباح للفرنسيين أن يسكنوا دولة الأمير
فأوعزت المخابرات الفرنسية إلى ليون روش لمهارته في اللغة العربية ومعرفة تقاليد الجزائريين
وثقافتهم، للالتحاق بمعسكر الأمير والتظاهر باعتناق الدين الإسلامي والدخول في وسط
جيشه والتقرب منه للتعرف على أحواله والقيام بمهمته، غادر ليون روش مقر أبيه بإبراهيم
رايس واستقر عند قبيلة بني موسى في منطقة متيجة وقد كانت تربطهم به علاقة سابقة،

إذ كان يخرج معهم في رحلات للصيد خلال السنوات الماضية، وأعلن إسلامه ونطق
بالشهادة، وسمي بعمر بن عبد الله. وبدأ بإقامة الصلاة وإعلان الشعائر الإسلامية علنا ،
ومن بني موسى بدأ ينظم اتصالاته مع بعض الفرنسيين والجزائريين بهدف جمع المعلومات
الكافية حول أحوال دولة الأمير عبد القادر الفتية ووصل إلى مدينتي بوفاريك والبليدة
وأظهر إسلامه أمام الحاكم لجلب نظره، واستبشر به خيراً، وفرح به أشد الفرح لاعتقاده

في أن الله قد هدى الشرك إلى الإيمان، فاستضافه وأكرمه وقدمه لمرابط المدينة نصرانيا من
سيدي بلقاسم سيدي الكبير، الذي وثق به على حسن نية، فأقام عنده وعمل على
إقناع سيدي بلقاسم بتزكيته والتوسط لدى الأمير حتى يلتحق به ويقدم خدماته له وعاد
ليون روش إلى أولاد سيدي موسى وحمل متاعه في طريقه إلى مليانة ففتحت له الطريق
ووصل إلى مدينة مليانة حيث كان يقيم صديقه عمر باشا الذي كان يعلم أن ليون روش
ينافق ويتظاهر باعتناق الإسلام، فاستضافة وقدم له النصح عن كيفية سيرته وأوصاه
بالحذر في تحركاته والفطنة في سلوكه لكي لا يجلب شكوك المسلمين حوله وفي هذه
الأثناءكان خليفة الأمير محمد بن علال غائباً عن المدية، فاتصل ليون روش بنائبه و كاتبه
قدور بن رويلة، وشرح له قصته المزيفة عن دخوله في الإسلام وأنه يريد الالتحاق بالأمير
عبد القادر ليقدم له خدمات جليلة واستبشر قدور بن رويلة ووعده بأن يصطحبه هو
بنفسه إلى معسكر الأمير ويطلب من الخليفة محمد بن علال أن يقدمه للأمير شخصياً.
وعندما سار الأمير عبد القادر إلى الشرق وعسكر على ضفاف وادي نوغه جيء به
عند الأمير، فاستقبله فصار يخبره ويؤكد له أنه اعتنق الدين الإسلامي بكل إخلاص
وطلب منه الدخول في خدمته.
وأمر الأمير عبد القادر أحد العلماء بالاعتناء بهذا الشاب وتفقيهه في أمور الدين الحنيف
وقراءة القرآن وآداب الشريعة الإسلامية، وفي وقت قصير أتقن ليون روش هذه العلوم
و ُ سّر الأمير لذلك، واستجاب الأمير لطلب الزواج من إحدى الفتيات المسلمات، وهكذا
أصبح ليون روش مسلماً ومقاتلاً أيضاً إذكان يشارك في المعارك في تلك الفترة.1
وشرع ليون روش يرتب أمور عمله لأداء مهمته الحقيقية كجاسوس، وطفق في جمع
المعلومات ومراسلة الفرنسيين وتعريفهم بأحوال الأمير العسكرية والسياسية وغيرها،
ووصف الأمير في تقاريره وصفاً دقيقاً في شخصه ومناقبه ولباسه وأوصافه الجسمية
والخلقية والدينية والثقافية وبين عدله واحترامه لتعاليم الإسلام وهيبته واحترام الجنود
والمواطنين له ولم يترك شاردة ولا واردة تتعلق بالأمير ودولته وقع عليها إلا أرسلها في
تقاريره، وفي بداية عام 1838م أثناء إقامته في مدينة تلمسان حين أوفده الأمير عبد
القادر ليتعلم القرآن وتعاليم الإسلام شك فيه أهلها من نوايه الحقيقية وأخبروا الخليفة
البوحميدي، ولما أحس ليون روش بالعيون تراقبه فّر إلى مدينة وهران إلى أن وصل إلى
خيام بني عامر قرب عين تَوشنت، وفي خيمة الآغا انكشف أمره، فاسترجع أدراجه إلى
الخليفة البوحميدي، ودافع ليون روش عن نفسه من تهمة الفرار إلى العدو دون إذن مسبق
والخيانة العظمى التي تستحق الإعدام، وفضلاً عن ذلك طلب وثيقة سفر ليتوجه إلى
الأمير عبد القادر ويشتكي له من قسوة المعاملة التي لم تكن تليق بمكانته واتخذ موقف
المهاجم أمام الخليفة البوحميدي وراح يعاتبه على عدم الثقة فيه رغم أنه مبعوث من طرف
أمير المؤمنين، وأن قلبه يعمره الحب والرغبة في الإسلام وله الحق كغيره من المسلمين في
حسن المعاملة، حينها اعتذر البوحميدي له في أدب ووعده بمنحه رخصة السفر وتوفير
الأمان له إن رغب في ذلك، ولكنه حذره من العودة إلى مثل ما قام به من عملية الفرار
وفي شهر فيفري 1838م، بعث ليون روش برسالة مطولة إلى جهاز المخابرات ف ّ صل
فيها النظام الإداري والعرفي الذي كانت تسير عليه قبائل غرب الجزائر وشرح لهم ما عرفه
1 عن الأحوال الاجتماعية والاقتصادية والعسكرية والثقافية والدينية التي كان يمارسها
الأهالي.
وفي أوائل شهر أفريل 1838م وصل إلى مدينة المدية فجثا أمام الأمير عبد القادر راكعاً
باكياً واشتكى إليه من ظلم وجور الخليفة البوحميدي ورجاله، وسوء معاملتهم له وأنهم
واعتبروه كافراً وليس مسلماً أتى من أجل خدمة الأمير ولنصرة الحق على الباطل، وإظهار
النور على الظلام ، وبالغ في التضرع والخداع حتى حن قلب الأمير عليه، باعتباره مسلماً

غريب الدير وصّدقه وأصبح من حاشيته وعيّنه كاتباً ومستشاراً  ورفيقا يقرأ عليه ويترجم   

له ما يكتب في الصحف الفرنسية، وكان يحضر حتى في مجالسه السرية التي كان يعقدها
مع كبار دولته ، و كان اختراقاً هائلاً وعظيماً ساهم في القضاء على دولة الأمير ومن

الأسباب التي أدت إلى إضعافها وتكسير مقوماتها ومؤسساتها.

ج انكشاف أمر الجاسوس :

في نهاية عام 1839م سافر الأمير عبد القادر إلى تلمسان لتنظيم شؤون الدولة والجهاد
دون أن يترك أية أوامر تخص ليون روش، فانتهز فرصة غيابه وخادع الناس بمهمة

مزعومة
إلى مدينة مليانة ليتفقد مصانع الأسلحة وأخذ كل ما يحتاجه من وثائق من بينها خريطة
جغرافية جزائرية، وجهاز بوصلة وخاتَه بصفته كاتب الأمير ورافقه جاسوس آخر هو
ايزدور الذي كان يعرفه منذ أن كان يقيم عند أبيه من قبل، كما أخذ عدداً من الرسائل
استعملها في شكل برقيات ليخادع بها كل من اعترض طريقه ويساعده في معرفة المواقع،
وتوجه نحو مدينة وهران فاراً نحو الجي الفرنسي ولما وصل إلى منطقة معسكر أ خبر من
اعترضه من أهلها أنه ذاهب في مهمة إلى معسكر وتلمسان بأمر من الأمير إلى وكيله في
وهران، ووصل ليون روش بصحبة رفيقه إلى مركز الجي الفرنسي في ناحية الكرمة
بالقرب من وهران، ثم انتقل من هناك إلى مقر حاكم الإقليم ونسي الأمير ودولته وطفق
يحارب مع الجي الفرنسي ويطارد قوات المجاهدين حتى سنة 1844م فكرمته دولته

الفرنسية وعينته بأعلى المراكز وكافأته على نجاحه في المهمة التي كلف بها.
وذكرت الأميرة بديعة الحسني الجزائري في كتابها القيِّم: بأن ليون روش استطاع تزوير
رسالة باسم الأمير عبد القادر إلى أمير مكة مقلداً خطّه ووقعها بختمه الخاص وهرب
حاملاً الرسالة إلى فرنسا ومتجهاً إلى باريس وأطلع حكومته على الرسالة فحملّته هدية
ثمينة، وأمرته بالسفر إلى مكة، فارتدى اللباس الجزائري وأخذ الهدية والرسالة وسافر إلى

مكة فوصلها معززاً مكّرماً وهناك قابل الشريف محمد بن عوف أمير مكة وسلمه الرسالة
والهدية، فأكرم أمير مكة وفادته وعامله معاملة رسل الملوك، وبعد أيم كما هي العادة
وكما كانت تقضي التقاليد العربية سلمه أمير مكة رسالة جوابية، ومعها هداي ثمينة إلى
الأمير عبد القادر، فرجع حاملاً هذه الأشياء إلى فرنسا وسلم إلى حكومته الرسالة التي
كان يُفترض تسليمها إلى الأمير، وبعد قراءتهم الرسالة تأكدوا أنه لا علاقة للأمير بأمير
مكة، ولم يسبق أن ساعده بشيء وبعد نجاحهم في هذه العملية التجسسية أعادوا
الكّرة مرات عديدة، فمرة كانوا يرسلون الجواسيس على أنهم سيّاح ومرة على أنهم تجّار،
ولكن جميع تلك المحاولات كانت تبوء بالفشل، إلا أنه بعد هروب ليون روش وافتضاح
أمره أصبح الحذر شديداً لدى المسلمين والأوامر صريحة وواضحة بهذا الخصوص.
وقد ألّف ليون روشكتاباً تاريخياً بعنوان: "اثنتان وثلاثون سنة في الإسلام" أصبح مرجعاً
كبيراً لكثير من المؤرخين والكتّاب، وقد وصف فيه مقابلته الأمير في معسكر عين شلالة
فقال: رأيت وسط المعسكر خيمة كبيرة يقف ببابها جمهور كبير إنها خيمة السلطان،
و كان جالساً وحده في صدر الخيمة، فغضضت من بصري وتقدمت نحوه ببطء، ثم
ركعت ولثمت يده كما هي العادة عندهم، ظننت أنني أحلم عندما رأيت عينين
خضراوين تحيط بهما أهداب سوداء كثيفة، كان يحمل بيده مسبحة وتحيط بوجهه لحية


سوداء حريرية، ولو بحث فنان عن صورة لعابد من عُبّاد القرون الوسطى يضعها على
لوحته فإنه لن يجد حسب رأيي نموذجاً أفضل من الأمير ببرنسه الأبيض وجلسته اللطيفة،
وعلى الرغم من مكانته العظيمة التي كانت تسمح له بالتعالي والسّ مو،كان طيباً لبقاً، ولم
يكن أحد من الحّراس بجانبه.

  معاهدة تافنة :

استغل الأمير توجه كلوزيل إلى قسنطينة فأصدر أمره إلى خليفتيه مصطفى التهامي
والبوحميدي بالتوجه على رأس جي إلى وهران ومحاربة القبيلتين اللتين تحالفتا مع
الفرنسيين وهما قبيلة الغرابة وقبيلة البني عامر والعشائر المتحالفة معهما، فاكتسح الجي
جنودهما واستولى على مواشيها وألحق بها هزيمة قاسية وأمر الأمير خليفته محمد بن علال
أن يتوجه إلى الجزائر فانطلق بجيشه إلى متيجة ونواحي الجزائر، يدمر مزارع الكولون
ويستولي على مواشيهم ويأسر بعضهم ووصلت قواته إلى أبواب العاصمة التي هرب
الفرنسيون وراء أسوارها وأغلقوا أبوابها وعاد إلى حاضرة ولايته وبعث رسولاً يخبر الأمير
أنه عُّ ين دامريمون حاكماً عاماً خلفاً لكوزيل المعزول يوم 1837 /2 /12م وانتشرت
أقاويل في باريس مفادها: أن الأمير عبد القادر هو المعجب الكبير بالمدينة الغربية،
ويعمل من أجل تجديد شباب القومية العربية وتصور الفرنسيون أن بإمكانهم أن يجعلوا
منه أميراً مسلماً بالاحتلال يحكم الداخل لصالح فرنسا وعّ ين الجنرال بوجو قائداً للجي
الفرنسي في وهران الذي وصلها على رأس 15000جندي بتعليمات صارمة بضرورة
عقد صلح جديد مع الأمير ووقف الحرب معه.
وجاء هذا القرار الفرنسي بعد أن تَكن الأمير من فرض حصار صارم على المدن المحتلة
من الفرنسيين وأرسل الفرنسيون إلى الأمير عبد القادر ابن دران اليهودي ليفاوض الأمير
على الهدنة.
أرسل الجنرال بوجو الرسالة الأولىعارضا شروطاً شديدة رفضها الأمير الذي أجاب
برسالة عرض فيها شروطه، ورد بوجو على الشروط بشروط مخففة وهو يلقبه بسلطان
العرب وأرسل الأمير مرة أخرى جواباً على الرسالة بشروط رفضها بوجو وقرر وقف
التفاوض والخروج للحرب، فخرج واحتل تافنة، وعلم الأمير فأرسل رجاله يستنفرون
القبائل للجهاد، وعندما تأكد بوجو من قوة تحرك الأمير وألا قبل له بمواجهته الآن تراجع
وقرر العودة للمفاوضات.
وعاد الجنرال بوجو إلى الجزائر في نيسان أبريل 1837م مشترطاً عدم رضوخه للحاكم
لحربية
العام بالجزائر، رابطاً علاقته مباشرة مع وزارة ا ، واستقر في وهران ودخل في
مفاوضات مع الأمير عبد القادر، واشتكت الوزارة بأنه كان يتجاوز تعليماتها وبأنه تنازل
كثيراً للأمير و كرر يوجو مع الأمير ما سبق أن فعله ديمشال.1
انتدب الأمير ممثلاً له يتفاوض مع بوجو، وطلب هذا أن يعترف الأمير صراحة بالسيادة
الفرنسية على مناطق محددة وتكون للأمير سيادته .
ورفض الأمير شروط بوجو الذي عرض عليه مناطق أخرى لاسترضائه كولاية تيطري،
ومن باب إثارة الحزازات بين بوجو والحاكم العام بالجزائر، كان يفاوض الاثنين، فاندلع
جدال بين القائدين الفرنسيين حول اختصاص كل منهما، وتدخلت الحكومة الفرنسية
فكلفت بوجو بمفاوضة الأمير.
خذ
أرسل الأمير مرة أخرى مبعوثاً هو السيد حمادة السّ قال رئيس حضرة تلمسان، وبعد أخذ
ورد حررت معاهدة تافنة يوم 1837 /5 /20م وشروطها مختصرة كما يأتي:
أولاً :

 يعترف الأمير بسلطنة فرنسا على مدينة الجزائر ووهران


ثانياً :

يبقى لفرنسا في إقليم وهران ومزغران وموغران وأراضيها ووهران وأرزيو بحدود معينة
يصير كل ما بداخلها من الأراضي للفرنسيين.


ثالثاً :

  على دولة فرنسا أن تعترف بإمارة الأمير عبد القادر على إقليم وهران وإقليم تيطري
والقسم الذي لم يدخل في حكم فرنسا من إقليم الجزائر بحسب التحديد المعين في الشرط


الثاي ، وألا يمد يده لغير ما ذكر من أرض الجزائر.
رابعاً :

 ليس للأمير سلطة على المسلمين من أهل البلاد المملوكة لفرنسا، ويباح للفرنسيين
أن يسكنوا في مملكة الأمير، كما أنه يباح للمسلمين أن يسكنوا في البلاد التابعة لفرنسا.


خامساً: يمارس العرب الساكنون في أراضي الفرنسيين دينتهم بحرية.
سادساً: على الأمير أن يدفع للجي الفرنسي 30000كيلة من الحنطة ومثلها من
الشعير بمكيال وهران، وخمسة الآف رأس بقر، يؤدي ذلك على ثلاثة أقساط.
سابعاً: يسوغ للأمير أن يشتري من فرنسا البارود والكبريت وسائر ما يحتاجه من
الأسلحة .
ثامناً .

على فرنسا أن تتخلى للأمير على أسكلة رشكون ومدينة تلمسان وقلعة المشور


مع المدافع القديمة التي كانت فيها ..
تاسعاً  

. تكون التجارة حرة بين العرب والفرنسيين

عاشراً

. يكون رد المجرمين بين الطرفين
حادي عشر

. يتبادل الممثلون بين الطرفين


بعد التوقيع المعاهدة طلب الجنرال بوجو أن يجتمع بالأمير فعين له هذا مكاناً وتاريخاً،
وجاء الجنرال في جي ضخم قصد التأثير على الأمير، وأعد الأمير عدته وجاء في موكب
كبير على رأس جي يتكون من 15000فارس، سائرين بنظام عجيب في سهل يموج


بهم وظهر الأمير وقد أحاط به نحو مائتين من رؤساء القبائل ممتطين لخيول عراب،
متمنطقين بأسلحة مصقولة والأمير يتقدمهم على جواد عربي أسود من أجمل ما عربين جياد عصره، وحوله ستة من السياس. تقدم منه الجنرال فتصافحا ثم ترجلا، ودار
الحوار التالي بين الرجلين
إنك تكسب أيها الأمير بهذه الهدنة حيث إنني بمدتها لا أخرب المواسم
هذا لا يضرنا ي جنرال، حتى إي أعطيك الرخصة بأن تخرب ما تقدر عليه، ولا يمكن
لك أن تخرب إلا بمقدار زهيد، ومع ذلك عند العرب حبوب وافرة.
أظن أن العرب لا يفكرون مثلك فهم يرومون الصلح بعضهم أثنى علي لكوي حافظت
على المواسم كما وعدت ومنهم حمادة الصقال.
فأجاب الأمير مبتسماً: ما هي المدة التي يمكن رجوع الجواب فيها من فرنسا؟
لا تكون أقل من أسبوعين.
حيث إن الأمر كما ذكرت فلا نجدد العلاقات التجارية ولا نحدث شيئاً من مقتضيات
المواصلة إلا بعد ورود الجواب من فرنسا
ثم افترق الرجلان، ويروي ابن رابح أحد ضباط الفرسان الذين كانوا في حرس الأمير: أنه

عندما وقف الأمير لوداع الجنرال قّرب إليه فرسه الأدهم الشهير ليركبه، وبعد أن صافح
الجنرال ونزع يده من يده التفت إلى الفرس وعلا عليه في أقل من لمحة، وحركه بركابه
فمرق بين الخيل مروق السهم، واندفع به ثلاث دفعات متوالية وعلى وتيرة واحدة، فانبهر
الجنرال لذلك، وتعجب من سرعة ر كوب الأمير وخفة الفرس وبقي واقفاً برهة من الزمان
ينظر نظر المتحير ثم ركب فرسه ومضى، وبعد أن سار الأمير على مسافة بعيدة من
موضع الاجتماع، أمر الجنرال أحد ضباطه أن يرجع إلى المحل ويأخذ مساحة ما بين تلك
الدفعات الثلاث فكانت مساحة ما بينكل منها تقرب من ثلاثين ذراعاً.
نالت اللغة العربية موقعها السيادي بالمعاهدة وهو موقف ثابت للأمير، فقد ورد في نصها
ما يأتي: حرر نص المعاهدة على شطرين عربي وفرنسي، فكتب الأمير اسمه بخطه على

الشطر العربي وختم عليه بخاتم الإمارة وكتب الجنرال بوجو اسمه بخطه على الشطر
الفرنسي بخاتَه الرسمي وأعطى بوجو 5000بندقية للأمير وصادق الملك لوي فيليب
على المعاهدة بتاريخ 1837 /6 /15م ،1وقد علق عليها رجال السياسة الفرنسيون
على أنها جعلت الأمير الأقوى بدون نصر عسكري، لكن في ذهن الجنرال بوجو فكرة
يعمل من أجلها وهي تأمين جانب الأمير والتفرغ للإعداد لاحتلال قسنطينة وهزم أحمد
باي، ثم العودة ومحاربة الأمير. وهذا ما لم يفهمه أحمد باي الذي رفض باستعلاء
الانضواء تحت راية الأمير الذي يعتبر أقوى قائد عرفته المقاومة، ولو كتب لهذين الرجلين
أن اتفقا لأمكن للتاريخ أن يغير مجراه.
وبعد المصادقة على المعاهدة أعطى بوجو أمراً للجنرال كافينياك بإخلاء تلمسان التي
دخلها الأمير في موكب مبهر، واستقبله الشعراء بقصائدهم وأنشد هو قصيدة حيا فيها
تلمسان ورد فيها
ونادت أعبد القادر المنقذ الذي
أغشت أناساً من بحار هواها
لأنك أعطيت المفاتيح عنوة

فزدي أي عز الجزائر جاها
وما إن وضعت هذه المعاهدة موضع التنفيذ حتى اتجه الأمير لتقوية الأوضاع الداخلية
لدولته ،3فتوجه لمحاربة من شّ قوا عصا الطاعة.

أ محاربة من شق واعصا الطاعة

ما إن وضعت هذه المعاهدة موضع التنفيذ حتى اتجه الأمير لتقوية الأوضاع الداخلية
لدولته، فتوجه لمحاربة من شقوا عصا الطاعة، وبدأ بقضية محمد بن عبد الله البغدادي،
فقد سبق أن حضر هذا الدعي من بغداد قبل سنوات، وزعم أنه من ذرية الولي عبد
القادر الجيلاي ، وأكرمه الشيخ محيي الدين والد الأمير، واستغل انشغال الأمير في ترتيب
أمور دولته فتوجه إلى قبائل الزناخرة وأولاد نائل، والتقى بأكبر مشاغب ضد الأمير وهو
مختار محمد بن عودة الذي قدمه على أنه البديل للأمير ووصفه بأنه محمد بن عبد الله
المنتظر، فاجتمع له خلق كثير، فقرر الأمير وضع حد لذلك وتوجه له على رأس ثمانية
الآف فارس وألف من مشاة وقطع من المدفعية والتقى بالمنشقين في بلاد أولاد مختار،
ودامت المعركة ثلاثة أيم تعب فيها الأمير في كسر شوكتهم، ثم نصره الله عليهم.
توالى عليه شيوخ القبائل بالناحية فشفعوا في العصاة فقبل الأمير شفاعتهم وعقد لمحمد
بن عودة رئيساً على قبائل الناحية بعد أن طلب العفو.
أما عن البغدادي ففي أثناء هروبه تَكن بعض أنصار الأمير من أسره وتسليمه للأمير
الذي عفا عنه أيضاً، فانتقل للمغرب الأقصى واستقر به

بعد هذا الانتصار قام الأمير بجولة بالجنوب فقدمت له وفود من الأغواط عرضت عليه
طاعتها وطلبت منه تعيين من يسوس أمورهم، فعّ ين السيد الحاج العربي بن السيد الحاج

عيسى الأغواطي، وأقام بالمدية فاستقبل العديد من الوفود التي قدمت له من سائر أنحاء
القطر حيث ألقى في الجهاد درساً في التوحيد.
وخرج من المدية على رأس جيشه بهدف تقويم اعوجاج قبائل وادي الزيتون، فهزم جموعهم
وأسر رؤساء الفتنة، وجمع العلماء للحكم على هؤلاء الذين سبق لهم أن شقوا عصا
الطاعة وشملهم عفو الأمير، فحكم عليهم مجلس العلماء بالإعدام، ومثُل أمامه 18رجلاً
منهم لتنفيذ الحكم فيهم فطلب منهم التوبة، فأجاب أحدهم: إن قطع أعناقنا أولى من
تقديم الطاعة، فأمر الأمير الجلاد فقطع رأسه، ثم توالى الثاي والثالث فقطعت رؤوسهم
إلى أن وصل الدور لشيخ هرم فقدم له وهو يرتعد خوفاً فهجم أطفاله على الأمير ووقفوا
يتباكون وبينهم طفلة صغيرة السن خاطبت الأمير بقولها: بحق الله ووالديك وأولادك أن
تعفو عن والدي. فلما سمع الأمير كلامها غلبت رحمته على غضبه وأمر بالعفو عن
والدها وعن الباقين، واحتضن البنت وقبلها لتسببها في حلمه، وأعلن العفو عمن خالفوه
ورد أموالهم لهم، ولما سمعت القبائل المعارضة هرعت إليه وطلبت العفو وعاد إلى المدية
بعد أن ثبت كل رئيس قبيلة على قبيلته.

ب التصدي للمتمرد محمد التيجاني:

سبق أن استقبل الأمير وفوداً من قبائل الأغواط الشراقة حيث طلبوا منه قبول انضمام

ناحيتهم إلى دولته، فقبل وعّ ين على ولايتهم السيد الحاج العربي، لكن محمد ا لصغير
التيجاي رفض الانضواء تحت راية الأمير واستطاع التأثير على بعض القبائل فتبعته،
فتوجه له الأمير على رأس جي يوم 1838/6 /12م قوامه 6000فارس و 3000من
المشاة وثلاثة مدافع وست هاونات ووصل المنطقة بعد عشرة أيم سيراً في الصحراء،
وكان التيجاي يتحصن في حصن بعين ماضي، حاول الأمير فتح ثغرة في الحصن، أو نفق
يتسلل منه جنوده، لكن المحاولات باءت بالفشل، فقرر فرض حصار منيع عليه دام ستة
أشهر، وعندما عض الجوع سكان الحصن، ضغطوا على التيجاي الذي أرسل يوم 19
نوفبر تشرين الثاي إلى خليفة الأمير السيد الحاج مصطفى التهامي، يستأمن على نفسه

وأهله وسكان الحصن وطلب منه منحه مهلة أربعين يوماً لإخلاء الحصن، الخليفة فعرض
الأمر على الأمير، فقبل وأخلى الحصن في التاريخ المحدد وأمر الأمير بتدميره.
كان محمد التيجاي يعتقد أن الأمير عبد القادر سينهزم وخطب في مريديه بقصره بعين
ماضي قائلاً: إن عبد القادر سيفشل بحربه ضد فرنسا حتى إن انتصر لا يفيدنا بشيء
فنحن التيجانية خلفاء الله في أرضه.
بهذه القناعة كان التيجاي يتعامل مع أمير البلاد الذي كان يعتبرهم من المرابطين على
الرغم من ملاحظاته على بعض أفكارهم وتصوراتهم ولكنه اعتبرها بينهم وبين رب
العالمين، ولكن عندما قرأ رسالة بخط محمد التيجاي مرسلة إلى المارشال فاليه كتب له
فيها: اشغل أنت الأمير من جهة البحر، وأنا سأشغله من جهة الصحراء. هذه الرسالة لم
تصل إلى فاليه لأنها وقعت بيد فرسان الأمير أثناء أحد المكائن، ومنذ ذلك الحين والأمير
يتحين الفرص لإخضاع هذا المتمرد الذي كان يظنه من المتعبدين فخاب ظنه فيه والذي
لم يقتصر عمله على عدم دفع الزكاة التي فرضت على أساس شرعي فقهي، وإنما تطال
إلى درجة الخيانة.
كان في ذلك المكان من الأغوات جنوب الصحراء نبع ماء منذ أقدم العصور، سمي
المكان باسم العين "عين ماضي" شيّد فيه أجداد محمد التيجاي ثلاث مئة بيت وقصراً
منيفاً وأبراجاً تحيط بها جدران كثيفة من الحجر، وزاوية تدرس فيها الطريقة التيجانية التي
من أهم مبدأ في عقيدتها هو السلام، وهذا ما جعل الأمير وأركان دولته في البداية يظنون
بهم الخير والصلاح، ولكن الأيم كشفت حقيقة هذه العقيدة، وأن مفهوم السلام عندهم
هو القبول بحكم الأقويء حتى لو كانوا من الغزاة المحتلين وتهيئة النفوس لقبول الاستعمار
والاحتلال على شرط عدم المساس بهيئتهم الشخصية ومصالحهم الذاتية البحتة، وأيقن
الأمير أن الحرب ليست بينه وبين جنرالات المحتلين، فقط وإنما بين قوى الشر أيضاً في
ا
البلاد، ومن خيمته داخل الأدغال أخذ يدير أعماله الإدارية، ويوقع على القرارات التي
تستوجب توقيعه.
اضطر التيجاي نتيجة الحصار إلى التسليم ونزل على شروط الأمير عبد القادر وهي:
أن يرسل الشيخ أحد أولاده ليظل رهينة عند الأمير ريثما يتم الجلاء عن الحصن.
أن يدفع الشيخ مصاريف الحصار للدولة .
له الحق بأخذ جميع أمواله بلا استثناء.


فقبل التيجاي هذه الشروط ووقع عليها، وأرسل ابنه فأمنه الأمير وأحسن معاملته، وقبل
انتهاء المدة كان الشيخ قد خرج بأهله من الحصن، وبعد ذلك بأيم وقبل عودة قواته إلى
مراكزها أمر بتهديم الحصن والسور وسائر الأبراج وسواها بالأرض وغور ماء الآبار،
فسارعت أكثر القبائل المحيطة بالحصن إلى دفع الزكاة وكاتب وفد منها أمير البلاد وعندما
جلسوا بين يديه قال لهم: أيها المسلمون، لقد نصرنا الله على العصاة أيها الرجال إننا
نبني دولة تصون أعراضكم وتحميها وتؤمن لكم العزة والكرامة وتحمي أموالكم ودينكم، إن
الله سبحانه وتعالى أراد لي تحمل هذه المسؤولية التي ليست مسؤوليتي وحدي إنها
مسؤوليتكم وبناء الدولة والمحافظة على نظامها وقوانينها هي جهاد، لأن الجهاد في سبيل
الله ليس فقط قتال العدو وإنما أيضاً البناء وتقوى الله فاتقوا الله في أنفسكم وفي دولتكم
الإسلامية ونظامها الإسلامي الإلهي العظيم الذي تجدون فيه حلولاً لجميع المشاكل التي
تعترض حياتكم الاجتماعية والزراعية والاقتصادية، قفوا بقوة في وجه تحديت المحتلين
وإغراءاتهم فهي مؤقتة وزائفة فعلت أصواتهم "الله أكبر" وخرجوا وألسنتهم تلهج بالدعاء
لأمير البلاد.

كانت معاملة الأمير للأسرى الذين وقعوا في قبضته من اتباع التيجاي أثناء الحصار
متقدمة ومتميزة فقد كان ج ّ ل هؤلاء الأسرى يقيمون مع المقاتلين بنفس الخيام يأكلون
معهم ويصلون خمس أوقات في اليوم معهم، وبعد ايم أعادوهم إلى الحصن، فأخبروا
ذويهم عما شاهدوه من قوة جي الأمير ونظامه، وشاعت هذه الأخبار كالنار في
الهشيم بين سكان الحصن، فذهب عدد من المريدين لمقابلة شيخهم قائلين: أنظر ما آل
إليه حالنا وأنت الذي علمتنا عدم مجابهة بعثة العدو، وإن كان أقوى منا، وهذا العدو
مسلم مثلنا يصلي صلاتنا ويتكلم لغتنا ونحن من بايعناه منذ سنوات، ولقد سمعنا أن
الفرنسيين المحاصرين في وهران أضطروا لأكل القطط والفئران نتيجة الحصار الذي فرضه
الأمير عليهم فهز الشيخ رأسه وأمرهم بالخروج من الحصن رافعين الراية البيضاء طالبين
مقابلة الأمير ،1وتمّ بعد ذلك ترتيب أمور الاستسلام وفق الشروط التي تمّ ذكرها.

ج مراجعة علماء المغرب الأقصى :

كان الأمير يعمل على إحاطة دولته بسائر أنواع الضبط التشريعي والإداري، وكان يضطر

إلى إنزال العقاب بالقبائل العاصية المتعاونة مع العدو، وأراد أن يحيط علماء المغرب
ببعض المشاكل التي تواجهه وطلب منهم الإجابة فأرسل جماعة برئاسة عبد الله سقاط
تحمل أسئلة موجهه إلى علماء المغرب الأقصى طالباً منهم الإجابة عليها، وقد أجاب
عليها شيخ الإسلام الإمام التسولي. وقبل الاتصال بالعلماء قصدت البعثة سلطان
المغرب حاملة رسالة من الأمير.
وكانت الأسئلة تدور حول: كيف تعامل القبائل المنهمكة في المحرمات والعصيان؟ كيف
يعاقب الجواسيس والنصاب؟ وما هي الأشياء التي لا يجوز بيعها للنصارى؟ كيف يعاقب
العاصي بالمال وما فيه من الخلاف وتضارب الأقوال؟ كيفية تحريم ترك الإمام ونواب
الرعية على ما هم عليه من المفاسد وارتكاب المظالم؟ وما هو حكم المتخلف عن
الاستنفار للجهاد وما العقاب المسلط عليه؟ وما ينبغي أن يفعله الإمام قبل أن يستنفر
الناس؟ ما هي الأمور التي تجوز أن يُتصالح حولها مع العدو؟ ما هي المصادر التي يجوز أن
يرتزق منها الجي في حال فراغ بيت المال في الحال والأبدان والمال؟ ما حكم من ساكن
العدو الكفور ورضي بالمقام معهم في ما لهم من البلاد والثغور؟
كان قصد الأمير من هذه الاستشارة القانونية من علماء المغرب إبراء ذمته أمام الله وتجنبه
من أن يعاقب خارج أحكام الشريعة، وتقوية موقفه أمام الناس الذين سيشعرون بأن
الأمير يطبق عليهم ما أمر به الله بشهادة علماء متعِّ مقين في الشريعة وأصول الدين


author-img
السلام عليكم زوار ايقونة المعالي اتمنى ان تتم الفائدة من هذه المدونة للجميع

تعليقات

التنقل السريع